1ـ عن إيران
لا تعرفني د. آذر نفيسي، (أستاذة الأدب الإنكليزي في جامعات طهران ولاحقاً في جامعات أمريكا). وأنا؛ منذ عرفتها، أخط لها في رأسي كلّ يومٍ عباراتٍ طيبة:
د. آذر: حطّتْ كتبك في أرضنا، وقرأتكِ بحبّ، وغيّرتِ حالي وحالَ مَن قرأكِ. كتبكِ قافلة محبّةٍ وجمال. فيها المعلومة، وكشف المستور، والقدرة على الإقناع وعلى زعزعة بعض اليقينيّات القديمة…
سأخبركِ د. آذر: كانت المدرسة علّمتنا أن نكره الامبراطورية الفارسية. واليوم، وبعد قراءتي كتابيكِ: “أشياء كنتُ ساكتةً عنها”، و: “أن تقرأ لوليتا في طهران”؛ ربما يلزمني الاعتذار عن إساءة أجدادي العرب لحضارتك الزردشتية. معكِ وجدتُني أعود إلى الماضي، الماضي الذي لا يموت، أقرأ تاريخي بعيون (أعدائي)، وأستوعب لماذا يرانا الفرس برابرة، ولماذا لن تعنيهم مثلاً عدالةُ الخليفة عمر بن الخطاب، ولن تشفع له عندهم، ما دام أمر بنفسه بإتلاف تراثهم المكتوب لأنهم لن يحتاجوا، بعد إسلامهم، أيّ كتابٍ سوى القرآن.
يحق لكِ الفخر برستم وسوهراب وأفريدون الذين أنقذ شاعرُكم الفردوسيّ في كتابه (الشاهنامه) بعضَ ملامحهم من حرائق العرب، مثلما يحقّ لي الحنين إلى كل كتابٍ لم يصل إلى أبناء جيلي بعد أن أغرقه هولاكو في نهر دجلة..
وأيضاً: علّمتنا المدرسة أن نصفّق للثورة الإسلامية الإيرانية لأنها هتفت: الموتُ لأمريكا!. وأنا تدرّجتُ معكِ في التاريخ المعاصر لبلاد الفرس التي صار اسمها إيران في أواسط القرن العشرين، إيران الحريّات والبرلمان والانفتاح والانطلاق واستقلالية المرأة والصالونات الثقافية وتعددية الرأي، إلى تنامي دكتاتورية الشاه، وثورة العلمانيين ضده، وسرقة الثورة من قبل الخميني وأتباعه، والجحيم الذي آلت إليه بعد استتباب حكم الجمهورية الإسلامية الإيرانية. حكومةٌ تهتف الموت لأمريكا، ولا تُميتُ سوى شعبها: تكمّم الأفواه، وتغلّف المرأة بالجلباب، ويتعفّن الأحرار في السجون، ويُجبَر التاجر الأقلويّ أن يكتب على واجهة متجره: أقلية دينية، ويُغتال أصحاب الفكر من على منابرهم أو في بيوتهم أو وهم عائدون إلى أطفالهم، ويفرّ الناجون من الاغتيال إلى المنافي)
(عزيزتي د. آذر: ليس عليكِ أن تعتذري عن حكومتك التي تُنكّل الآن بشعبي، فقد نكّلتْ بكم من قبل، والطغاة طغاةٌ على شعبهم كما على باقي الشعوب.
2ـ عن أفغانستان
صورة أفغانستان في ذاكرتي المدرسية: بلاد قصية في شرق آسيا فيها خضرةٌ وجبال ومغاور كثيرة، بلدٌ مسلم يحفظ أبناؤه القرآن غيباً ويلثغون بحروفه المنقوشة كرسومٍ أجنبيةٍ بهيّةٍ ومقدّسة. وشعب أفغانستان في ذهني قبائلُ بدائية، رجالها أميون، حفاةٌ، أجلاف، قساة، ذكوريون، يرتدون العمامة والدشداشة القصيرة، ويطلقون لحاهم، ولا يغتسلون. ونساؤهم أدنى من مرتبة الآدميين.
في سبتمبر 2001، وفي خطابه المنمّق يتوعّد الرئيس الأمريكي بوش الابن بضرب معاقل الإرهاب في أفغانستان، في البلد الذي يصفه ب: الخالي من العقول، والذي لا يعرف أهله ما هو التلفزيون، ولا تعرف نساؤه المدارس، وتُجلد المرأة إذا ظهر كاحلها…
لكنك حين تقرأ كتب خالد حسيني وعتيق رحيمي وحنيف قرشي وسواهم من أدباء أفغانستان، تتفتح براعم ملوّنةٌ في رأسك: يقدّمون إليك أفغانستان أخرى فيها حضارةٌ وعلمُ وأدب، وبشر راقون وطموحون ومحبون لبلادهم. ولا يسعك إلا أن تراهم عشباً عنيداً يشقّ طريقه بين شقوق هذا العالم الصخريّ.
ذلك المشهد في رواية “عداء الطائرة الورقية” للكاتب الأفغاني خالد حسيني: يمرض بابا جان، الأفغاني المهاجر إلى أمريكا بعد الغزو السوفييتي، ولاحقاً الطالباني، لبلاده، يروح إلى المشفى بحالٍ شديدة السوء. وما إن يعرف أنّ الطبيب الذي يفحصه من أصلٍ روسيّ حتى يدفع بيديه هذا الطبيبَ بعنف، ويغادر المشفى. يحتجّ ابنه أمير: يا بابا: لقد ولد هذا الطبيب في متشغان، إنه أمريكيّ أكثر مما سنصبح عليه أنا وأنت يوماً! ويجيب الأب: “إنه روسيّ”، يلفظ الكلمة مكشّراً كأنها كلمةٌ بذيئة، “أهله روس، أجداده روس، أقسم برأس أمك أنني سأكسر ذراعه إن حاول لمسي..”.
لن تنسى ذاكرة بابا جان جرحها المفتوح، لم تلحق أن تنسى وقاحة الجنود السوفييت في بلده. لن يثق بطبيبٍ تعود أصوله إلى بلدٍ عدوّ، رغم أنّ هذا الطبيب قد يكون ماهراً ومسالماً وقد يكون مثله ضحيّةً لسياسة حكومته أو حكومة أسلافه.
3ـ عنّا هنا…
ربما لا ينظر (الآخرون) أيّاً كانوا، إلينا كسوريين أفضل مما كنتُ أرى أفغانستان. ربما نحن في أنظارهم: “عربٌ جرب، فقراء، همجٌ، جهلَةً، غَفَلةٌ يدبّون على الأرض بهندامٍ مريبٍ وعقلٍ معطّل…، وتضاف إلينا الآن التهمة المعاصرة: إرهابيون..”
والواقع أننا نسمع ونعي ما يقال عنا، ونقرؤنا في عيون من يجهلوننا، أو من يسيئون إلينا عامدين. وقد نرفض فنغضب، وقد نصدّق فنغور في اليأس، وقد نأمل منهم أن يتكرّموا ويفهموا حالنا، أو أن يبادروا، هكذا لوجه الله، لإعلاننا شعباً كريماً إنما مسلوب الإرادة…
والواقع أن السياسة مجرمة صعودا وامتداداً وعمقاً؛ صعودا حين تستعبد الحكومات القوية شعوباً ضعيفة. وامتداداً حين يُجبَر هذا الشعب المُهان على كُره شعوب الحكومات القوية، وعمقاً حين تتوارث الشعوب كراهية بعضها جيلاً بعد جيل.
والواقع أنّ الشعوب دوما أجمل من حكامها، وحين يخرّب الطغاة العلاقة بين الشعوب، فعلى الأدب أن يعيد للإنسان اعتباره، وأن يستثمر خطر الثقافة الذي لا يخشاه أحدٌ كما الطغاة، وأن تكفّر الكتابة عن ضلال السياسات.
كتابٌ جيّدٌ نقرأه أو نكتبه يُكسبنا شعباً نلاقيه أو يلاقينا، يفتح مغاليق القلب، ويقرّب الثقافات، ويفتح بينها باباً للفهم، لتبديد العداوة، لتقريب المسافة، وقد ينقل كتابٌ شعباً من خانة العدوّ إلى خانة الصديق.
…
نكتب الآن عن حالنا السوري، حيث دمنا يسيل كقناةٍ رخيصة، وحيث قلوبنا في القاع، وحيث يشحطنا الإحباط إلى تكريس صورة الضحية الخانعة، وحيث تطفو أحقادنا فلا يعلو من أصواتنا سوى الهمجيّ والمتطرّف والشاكي والنادب والمعاق وتاجر الحرب والشبيح والداعشيّ..
لكنّ بيننا غير هؤلاء، ممّن يستحقّون أن تُسمَع أصواتهم عاليةً وساطعةً وجميلةً وحقيقيّةً كما هم أهلنا..
وأنت تكتب؛ لا تنتظر من الآخرين أن يبرئوا سجلاتك المدانة. ستحتسب أن بين يديك أمانة شعبٍ تكتب عنه وشعبٍ آخر ينتظر صوتك ليفهمك..
صوتٌ ساطعٌ واحدٌ بيننا يساوي ألف صوت، ومقالٌ واحدٌ موضوعيٌّ ومنطقيٌّ يساوي جولةً رابحة في حروبٍ لن تتوقف
ستكتب كأنك الوحيد الذي يستطيع، وكأنها فرصتك الوحيدة والأخيرة
ليس بوسعك أن تخطو فوق مأساتك، لكن بوسعك أن تعمّمها على الأنسان في كل مكان.. ستكتب حزنك الإنساني بما يبعث الآخر على فهمه لا على الرثاء لحالك..
ستكون أنت؛ حقيقيّاً كفدائيّ. ستكتب في موقعٍ الكتروني، أو في صحيفة ورقية، أو في مدوّنتك، لنفسك، أو لقارئٍ افتراضيّ، عدوٍّ أو صديق، طاغية أو ضحية.. ستكتب ما شئت وما أوحت إليك به القريحة؛ ودوماً ستكتب لتنصف ذاتك، وتفقأ عين حاكمك، وتجبر عدوّك على احترامك.
ستكون “سوريّاً” أو ستصمت!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.