وإذا كان الموت اكتمالاً لسيرة كل حيّ، فالمجد للسوري الذي هتف بفطرته الوطنية:
“أمنا سوريا، وليس لدينا من بلد سواها”.
الرحمة للشهداء، لجميع الشهداء. كل الخسارات أقلّ فظاعةً من خسارة الإنسان
كانوا يستحقون يوم حداد. ومن قبلهم كان أقلّ ما يستحقه مئات الآلاف من السوريّين تحت التراب يومَ حدادٍ وطنيّ.
مرارة الفقد بطعم دمهم، بطعم الألم، بطعم الأسى على مأتمٍ لم يكن على قدر الوجع، ولا على عدد الضحايا أيّاً كانت مكانتهم، ولا على ما يوافق موروثنا أننا قبيلة مآتم ونواح.
الناس مرعوبون من المجاهرة بالحزن. هذا الرعب الذي يستلبهم اليوم، للمرة الأولى، جماعةً لا فرادى.
ترى هل تنجح هذه (البروفا) في تعليمهم أنه ما من دمٍ هنا أغلى ثمناً من دمٍ هناك؟!
***
اختار الكثيرون موقف التأني في تحديد هوية “رجال الكرامة”، وهوية زعيمهم الشيخ وحيد البلعوس. (نسبة المتدينين بينهم لا تتعدى الربع، والباقي أسماهم الشيخ “زمنيّين” متجاوزاً التسمية القديمة: “جسمانيين”).
قدّم الشيخ البلعوس مشروعه من غير تنميق:
– لسنا موالاة ولا معارضة. نبغي الدفاع عن الكرامة والارض والعرض من كلّ مَن يستبيحها أو يذلّ أهلها. “سوريا بلدنا، ما عنّا بلد غيرها”، “يا فوق الأرض بكرامة، يا تحت الأرض بكرامة”.
– وجّه اتّهامه إلى مسؤولٍ أمنيّ بمطاردة الشباب لإلحاقهم بالخدمة العسكرية، بأخذهم إلى الموت. قال في العلن: “المسؤولون ليسوا أغلى من أولادنا”
– وقف رجاله في وجه الجيش حين بدأ بسحب عتاده من الجبل، وتركه لداعش التي كانت أصلاً تحت مرمى نيرانه الصامتة.
– آزر أهالي القرى الشرقية (الحقف والجنينة مثلاً) في مواجهاتهم وحيدين مع داعش حين لم يتدخل الجيش.
– ذنّب النظام بسرقة مخصصات المحافظة من الوقود والسكوت على المهربين وتقاسم الحصص معهم.
– وأخيرا في الاحتجاجات المطلبية البحتة حول الخبز والكهرباء والمحروقات والغلاء، حين أمهل المتظاهرون المحافظ وسواه 48 ساعة لتلبية مطالبهم، وعد الشيخ بحماية الشباب الغاضب.
كان الردّ بتفجيرين إرهابيين يكون الشيخ هدف الأول منهما، وجماعته هدف الثاني، وكل البشر الذين سيموتون أمام المشفى الوطني (سقط متاع). وكان ردّ المحافظ الأول: “نتهم إسرائيل”.
لكنّ توجّه الناس الفوريّ والعفوي نحو الفروع الأمنية والساحة العامة وإزالة تمثال الرئيس الراحل، يعني برمزيته أنّ هؤلاء يعرفون عدوّهم.
***
لن نجمّل صورة الواقع. الناس مرعوبون. ردود الفعل تراوحت بين التصديق أو عدم التصديق الذي تتبعه (لكن..). ما يأتي بعد هذه ال (لكن) هو المصيبة: حتى وإن كانوا يكذبون فعلينا أن نصدقهم درءاً للفتنة. (وللمناسبة؛ يجهل معظم أهالي السويداء ماذا تعني، بالضبط، مصطلحاتٌ يرددها الجميع كل يوم عشرات المرات، منها: “الإرهابيون”، “المسلحون”، “الأمن”، “الأمان”، “الفتنة”….). ألم تكن “الفتنة” حين أحرجت مواقفُ الشيخ مشايخَ العقل، وجعلتهم يخشون على امتيازاتهم الاجتماعية والسياسية، فبادروا إلى إبعاده عن دينه؟ ما يعني، لمن لم يفهم، رفعُ الغطاء عنه وهدر دمه، علماً أن مطالبه جميعها لم تخرج عن سقف الدين ولا الوطنية. في حين لم يرفع المشايخ الحُرم في وجه من ثبت حقاً تورطهم العميق في الدم السوري؟!
وخلال أقل من يومين نُسب مقتله (في توليفةٍ لا تنطلي على عقل عصفور) إلى إرهابي محليّ (درزيّ يعني) ينتمي إلى جبهة النصرة. وأكثر من ذلك: أليست “الفتنة” أن يرتاح الناس لأن (القاتل) منا وفينا؛ أليست هذه “الفتنة” أن يسمّي القاتل دستةً من أسماء الشباب، خيرة الشباب، (من الجنينة وغيرها)، ممن يواجهون داعش وحيدين إلا من إيمانهم بالدفاع عن وجودهم، فيبرر للأمن اعتقالهم (كإرهابيين)، وتغييبهم واحداً واحداً بمباركة شعبية، لإرساء (الأمن والأمان)؟!
وإن كان الإعلام قدم الشيخ على أنه معارضة فلكي يزيد خوف الخائفين ولكي يضعف ثقة الشارع الذي يريد لهذا البلد أن يبقى (بأمن وأمان)، من مبدأ: (ما متت بس شفت مين مات). و(الكحل أهون من العمى). سيغطي الشمس بغربالٍ خيرٌ من أن يجبر نفسه على التفكير، وهو ما حصل.
***
لا تبدو مأمولةً وحدةُ الصف في وجه القاتل، سيظل الناس على خلافٍ في موقفهم من النظام. أضعف الإيمان أن نُبقي لأنفسنا شرف إعمال العقل ورفض التغرير بنا وتصغيرنا وتسفيه عقولنا. علينا أن نستوعب أنّ مصير السويداء مرتبطٌ بمصير سوريا. وأنها، (كباقي المدن السورية)، ليست معصومةً عن العقاب حتى وإن كان تململها لمجرّد المطالبة بالخبز والضوء.
لنطالب كلنا مشايخ العقل بمسؤولياتهم. نعرف مخاوفهم ونظل نطالبهم. نعرف سقف المرجوّ منهم ونظل نطالبهم. لنضغط عليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم، يحموا رعيتهم (والرعية هنا كل أبناء السويداء على اختلاف طوائفهم)، أن يدرؤوا “الفتنة” حين يضعون أنفسهم على مسافة واحدةٍ من الجميع. أن يتنصروا لأبناء البلد لا لامتيازاتهم، أن ينادوا في الناس بالكفّ عن حمىّ الهجرة كي لا تفرغ البلاد من عقلائها.
لنناشد الشرفاء من بين جماعة الدفاع الوطني. لا تسرعوا في الحكم: بين هؤلاء شرفاء كثيرون وأبناء بلد، لنُنهض الوجه الجميل فيهم، في التجار الذين عليهم أن يتقوا الله في أهلهم، في النقابات، في الدوائر الرسمية والزعامات الاجتماعية، وفي كل فردٍ يحمل روح المبادرة.
حينها قد يمكننا الأمل بحماية أبناء البلد من الاقتتال، وفي حماية البلد من الفلتان
نعلم أن مصير سوريا رهنٌ بلعبة الكبار، لكننا، نحن أبناؤها، نحتفظ بشرف المحاولة. نحتفظ لأنفسنا الآن ببضعة مطالب مرحلية، على ألا ننسى أننا نريد سوريا الواحدة، سوريا الكرامة للجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.