في ذكرى عيد الجيش منذ أكثر من عشرين عاما، تم إلقاء القبض علي في شارع الشعراني وأنا أحاول أن أخلص أخي الصغير ( 12 سنة ) من أيدي دورية أمن عسكري يمسكون به بتهمة بيع مهربّات.
استطعت مع صديقي وقريبي أمجد أن نحرره وبينما نهم بالهرب وقعت أنا وهرب عصمت وأمجد.
بينا لم يستلسم أخي الصغير الذي بدأ يمسك بالحجارة ويلحقنا وهو يشتمهم” يا ولاد العرص عما تتمرجلوا على أخي روحو حرروا فلسطين يا خروات”
يحاول أحد العناصر الإمساك به فيهرب مثل شامبنزي صغير ليظهر من جهة آخرى شاتما إياهم وهو يرجمهم بحجارته التي كانت تصيبني أنا بعد أن صاروا يحتموا بي. أصيح من الألم أطالبه أن يذهب بعيدا دون جدوى حتى وصلنا باب الفرع. فكان سخط العناصر علي.
قادوني وأنا ابن 15 سنة إلى الفرع وكان حفل الاستقبال لا ينسى، لم يمر عنصر إلا وصفعني وتمرجل علي بكل دناءة وحقارة المستقوي الرقيع.
صعدنا ثلاثة طوابق تلقيت خلالها أكثر من مئة بوكس وكف ولبطة مع أسراب من الشتائم التي يعجز العقل حتى عن تذكرها.
أدخلوني إلى الضابط كان لديه ضيف من خارج الفرع ( أحد أصدقائه على ما يبدو يلبس نظارات وأناقته مثل أساتذة الجغرافيا )
أوقفني الضابط باستعداد وبدأ يسألني عن أسمي وأهلي وأصدقائي وانتمائي الحزبي، ومن أعرف من الشيوعيين أو المعارضين في قريتي أو في عائلتي ….إلخ
بعدها صار يبتسم وينكت مع رفيقه ويسأله:
-شو رأيك مو شكلو هل الخرى ( قصدو عن حضرتنا ) عميل للعدو الصهيوني الغاشم؟
رفيقه خفيف الدم أجاب:
-لا هذا مبين عليه من عرصات الإخوان.
-لا أنا برأيي من طنطات الشيوعية..
-لا لا من عيونو ( عيون حضرتنا ) مبين عدو للوطن هذول عيون استعمارية …
ويقهقه الضابط ورفيقه وأنا المتورم الوجه والقلب أقف باستعداد كخرقة في مهب الريح أتمنى أن ما يحصل كابوس وسأفيق منه بعد قليل.. أو أن لي قوة دوق فليد لأرقعهما رزة مزدوجة أنــ ..ك أم من خلفهما… لكن لم يحصل هذا ولا ذاك فالواقع ينتصر بمثل هذه المواقف.
بعد أن انتهى فصل خفة الدم والمسخرة، خاطبني بحزم:
-يعني ما بدك تحكي كل شيء؟
قلت له متصنعا الحزن والشحار ( بلكي لوّي قلبه)
-أنا بحياتي ما فايت على قسم شرطة.
ضحك حتى بانت نواجذه، ورد ساخرا:
-يا طيزي نحنا منجيب الشرطة منقتلهم هون؟
حكيت كل شي يالله … أعدت عليه كل ما حصل.
لم يعجبه الحديث فنادى أحد عناصر الدورية التي أمسكتني، سأله بحزم: قلي شو عمل هذا؟
أجاب بثقة لم أشهدها في حياتي:
-سيدي هذا تهجّم على الدورية وسب علينا وعلى سيادة الرئيس، وكان ساحب سكين على بياعين الصبير، وعما يبيع دخان مهرب، وأجو بنات اشتكوا أنو قاعد يتحرشن فيهم، وصحاب المحلات اشتكولنا عليه أنو عما يفوت ياخذ منهم أتاوى …
يعني لولا ما خرّسو الضابط ما بعرف لوين وصّل .. الضابط صرف العسكري ودق على الجرس، ليأتي كائن يشبه مصغّر هالك الرجل الأخضر يرتدي كنزة لاكوست برتقالية تنفر عضلاته من أكمامها مثل بطختين.
قال له: خذ هالعرص طعميه فروج وحلقلو شعراتو ع الصفر.
من الطابق الثالث فوق الأرض إلى الطابق الثاني تحت الأرض قطعت الدرجات طيرانا. الأخ الهالك كان يدمدم بجملة واحدة .. راح خليك تشوف الله بالألوان، ( أستغفرت الله وسلمته أمري ) قائلا بنفسي منك وإليك، حكمتك يا رب.
كان الطالع على الدرج يركلني والنازل يلبطني أو يضربني دماجا.
كنت دريئة حزينة بين يدي كائنات لا تعرف إلا الشتائم والضرب والنكت الرديئة ..
وصلت من رحلة الجلجلة نزولا إلى ممر مضاء بإضاءة صفراء شاحبة.
فتح لي هالك آخر بابا حديديا وركلني إلى الداخل ..
كان هناك كومة من الكائنات البشرية تئن، تنبعث منها رائحة جيف ميتة يرتدون جميعا بدلات عسكرية مما يدل على أنهم عساكر من الجيش العربي السوري البطل.
توقفوا عن الأنين حال دخولي وصاروا ينظرون إلي شزرا مزرا .. وأنا ملتصق بالباب لا أريد أن أعترف أني بتّ واحدا منهم وخاصة إن شاربي لم يخطا بعد ..
صمت محفوف بالترقب على فوهة الدخول للجحيم، لكن شيئا ما جعلني ألتصق بالباب ولا أصدق أنها النهاية..
وقبل التهاوي الأخير انفتح الباب وصاح الهالك:
-تعال لهون ولا خرى ..
كان أجمل لفظ أسمعه بحياتي وشحطني إلى الخارج:
-سيادة النقيب بدو ياك
مشيت أمامه إلى غرفة في الزاوية، مرتبة وأنيقة أوقفني أمام طاولتها، دخل بعدها الضابط الشاب الذي رأيته في الطابق العلوي.
قال لي: سكّر الباب وتعال إقعد
فعلت ذلك ولم أجرؤ على الجلوس
قال: أقعد أقعد..
ثم تابع بلهجة المنتصر المتذاكي:
-أول شيء حظك بيفلق الصخر لأنو اليوم يوم الجيش العربي السوري والثاني أنو أنا كنت الموجود بالمناوبة.
أنا من أقاربك من عائلة عزّام وبعرف أخوالك حبيت فرجيك شو في هون مع توصاية يعني وصيت الشباب ما يثقلوها عليك منشان تفكر ألف مرة قبل ما تشرفنا مرة ثاني لهون.
هلق بترجع على البيت وما عاد بدي أسمع أنك كنت بشارع الشعراني، اسم الشارع الرئيسي بالسويداء.
بين عدم المصدق ومن كتبت له الحياة الجديدة خرجت من الجحيم لأجد أخي الصغير يحمل حجرين ويلطي بجانب أحد الحيطان، أخذته بسرعة ونزلنا لأجد أبي يشتري البطيخ ودون حتى أن يسألني أين كنت قال أطلعوا في البيك أب خاصته.
لا يمر يوم ذكرى عيد الجيش العربي السوري البطل إلا وأتذكر وخاصة إن صديق الضابط الذي يشبه أستاذة الجغرافيا ما زلت ألتقيه في كل مكان.
أخر مرة كان على الشاشة التلفزيون ليحلل الوضع في سوريّا وتحت صورته كتب تلك العبارة المذهلة ( معارض سوري )
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.