انْسَي أمر العتاب الآن، سأموتُ غدًا هل نسيتِ!
أمرٌ مُحبِطٌ أن تكون فكرة الموت حاضرةً في الذِّهن طوال الوقت، مدهشٌ كذلك، تخيلوا فقط كمّ الطيبة المُنفَلتة حينها!.
قطيّ الصغير كان أوّل موتاي، لم أكن قد أدركتُ معنى الموت بعد. اقتربتُ من فهمه بعد رؤية قريبةٍ لي ممددةً بثوبٍ أبيض كانت قد طرَّزته بنفسها لترتديه يوم الزفاف، وسط مجموعةٍ من النساء يصرخنّ ويبكينها، كانت تسير خلفنا، سمعنا صوتًا غريبًا لكنّنا لم نلاحظ غيابها، تابعنا المسير، العتمة
كانت شديدةً على طريق الضّيعة وسائق الكميون كان مسرعًا. بعد ذلك توالت الأسماء في مذياع القرية.
من بين ثلاث جنازاتٍ حضرتُها غاب عنها وجه أبي. الجنازة الوحيدة التي لم أحضرها علقت في مخيلتي. نحن أبناء المخيّلة لسنا أبناء الحقيقة. للحقيقةٍ
أبناءٌ، يولدون عجزة ومعاقين، يموتون كذلك، لكنّهم يتركون ألمًا حادًا في قلوب من يعرفهم..
أبناءٌ، يولدون عجزة ومعاقين، يموتون كذلك، لكنّهم يتركون ألمًا حادًا في قلوب من يعرفهم..
الجنائز كلّها خرقاتٌ للعقل لكنّنا نحن البشر تغوينا فطرة تجربة العبث.
تخيلوا! لو كانت أرواحنا بأيدينا كم مرّة كنّا سنُجرّب كبس ذلك الزر!أصحيحٌ أنَّه إذا ما اكتشف أحدهم الموت الذي بداخله أحبّه، ورغب بلمسه!
لماذا لا تستطيع ذاكرتنا احتمال فكرة الموت مع أنَّ بعوضةً يمكنها قتلنا بكل وداعة!
مآتمنا هي حزننا الدفين على أيّ شيء وكلّ شيء. نبكي أبديةً في ثلاثة أيام تتوالى مع فقدان عزيزٍ جديد. الحزن في عرفنا منفلتٌ لا يتبع الحدث، عدوى. لو كان الحزن يعيد ميتًا لعادت أموات العالم في جنازةٍ عربية واحدة تقودها “القوّالة” النّدابة أيضا. لو كان بإمكانه، لبكى الميت على نفسه من هول كلمات تلك المرأة. كيف أنّها تُعتّق كلّ هذا الحزن وتردده في كلّ جنازة، تجبرهنّ على البكاء وتعاتب من لا يردّدن كلماتها، ثمَّ تهدّد بتوقفها عن ذكر مناقب فقيدهنّ الذي لم تلتقيه يومًا.
أحيانًا يكون بكاء الجنازات ذاك نزيفًا صحيًّا لهنّ، ليتخلصنّ من كلّ هذا القيح. وليجدنّ متسعًا لفرحٍ لا مكان له في شغافهنّ هنالك حيث يحتفظنّ بفسيفساء الحزن، لو التهم فيروسٌ نَتنٌ أرشيف العالم من الفواجع ستجدونه مأرشفًا داخل إمرأة شرقيّة، الحزن بكامل ترتيبه الأبجديّ.
لا أصعب من دموع الرجال، نعم، ولا أشدَّ من صمت إمرأةٍ شرقيةٍ في مأتم. تلك ستكون الميت التّالي بلا شك.
لكن هنالك أيضًا من حرّر الموتى واحتفل بهم بفرحٍ خارج إطار المأساة، “بوتشوم بين” احتفاليةٌ تُقام في كمبوديا لدعوة الأموات، حيث يُعتقد بأنّه خلال أيام محددة من العام يغدو الخط الوهمي الذي يفصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى دقيقًا جدًا لدرجة أنّ الأرواح تقترب لرؤية أحبائها خلال أيام الاحتفال . بينما يدعو البوذيون والتاو “الأرواح الجائعة” إلى موائد عامرة بمختلف صنوف الطعام ضمن احتفالاتهم التي تقام بين شهري حزيران وتموز . في المكسيك كذلك، يحتفل جميع أفراد العائلة بهذا اليوم بتزين المنازل واللباس التنكري والشراب والرّقص في الثاني من نوفمبر. أمّا هنا في فنزويلا يخصّصون لكل عزيزٍ باقة ورد وبعض الشموع تنار حيث يرقد، ثم يجتمعون في المساء عند المذبح لأكل مالاتار الذرة المطبوخة، وشرب الأتول مع خبز الأموات. على الطرقات حيث الموت الأعنف اعتادوا زرع مجسماتٍ على شكل بيوت صغيرة تُوضع داخلها تماثيل للعذراء إلى جانب الصليب، وتنثر حولها باقات ورود جلبها أولئك الذين احتفظوا بذكرى عن روح أضاءت المكان يومًا.. في القرية المنسيّة بين الجبال حيث كنت أعيش سابقًا جميع الجنازات كانت تمرُّ من شارعنا بمجرّد أن نلمح السّيارة السّوداء كنّا نخفض أصوات الموسيقى لنرافقهم بصمت. أمواتٌ آخرون أوصوا بأن تصدح أغانيهم المفضّلة في رحلة طوافهم في شوارع القرية كي لا يرافقهم ضجر الصّمت إلى القبر. لم أرى إمرأةً تنحب في عزاء، النساء كنَّ دائمًا صامتات، ليس لأنهنّ لا يحزن على أحبتهن بل لأنهنّ اعتدنّ تفريغ الألم رقصًا على أنغام الريغيتون والصلصة. شعبٌ يُتقن الرّقص يتبدّد حزنه.
ارقصوا ..حتى لا تغدو أحزانكم مآتمًا شعواء
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.