والشارع مغتالُ الكَدر، وفيه فحسب، تزول الهموم ..
إنّكَ حين تدعُ لنفسك الباب موارباً، أن تكون جزءاً من مِحنة الشرود، يصبح لثقافةِ رؤية الأتراح ومقارعتها في عقلك الضئيلِ، منحىً ومكاناً آخر.
كان المكان يتضائلُ أكثر، يخبو مانحاً للعتمِ فيه، كلّ موضعٍ كبيرٍ وسكينة ..
“السلام يا آلهة السلام “، بِذا صرخت أرواحنا، فلم نلقَ بعد هذا الركود العظيم الذي جلبته الخيبة والهزيمة، سوى الحرب والاقتتال أكثر .
تتصل أمّي فتقول: لقد بلَغْنا الهدوء الآن، لعلّي أشعر ببعض التعب والجوع، لكنّ الأمور باتت تؤول أن تتآلف خيرًا، أرجو أن يكون حدسي صادقاً هذه المرّة .. ألّا يخذلني الحسُّ كما فات من أوقات.
يمسك أبي الهاتف متلهفاً، أن يتكلم في شيءٍ عظيم، فيسبقه البكاء إلى ذلك .. سعالٌ جافٌّ ونحيبٌ طويل.
أهربُ .. أركضُ .. أقفلُ الحديث ثمّ أرتدي بنطال الجينز المهترء الوحيد، وأهبط السلمّ الطويل رشقاً، درجةً وراء درجة، وحين أصبح حرّاً على قارعة الطريق، أرنو المقهى الكبير في ناصية الشارع المضيء ثمّ أمضي إليه بتؤدةٍ وهدوء، يدنو عاملُ المقهى كبير السنُّ في تساؤلِه عن رغبةِ المكوثِ ونوع الطلب المرجوّ في حيرة، أمدُّ يدي في السلام إليه وأختار ما اخترته منذ سنةٍ كاملة، فنجان قهوةٍ مُرّة، صحن سجائر ملمّع ونظيف، ومنديل قطنٍ أبيضٍ دون أيّ شيءٍ أخر .. وأجلس. أفتح دفتري اليوميّ وأدوّن هذا :
– يخافُ المرءُ من الموت قدرَ خوفه من المجهول. أمّا أنا، فأخشى الرحيلَ مبكّراً، مع ذلك، لم أُولَدْ بعد، ما زلت كواركاً، وتراً، مالانهايةً، ولربّما فراغ.
-لا يحقُّ لك الإنتحار وأمُك حيّة، أما زوجتُكَ، فحيّةٌ واجبٌ قتلَها، لسانُها عابثٌ بالسُّمِّ، لولاها ما انتحرت.
-أحبُّ في الشهر مرّتين . وفي اليوم امرأتين.
تأتي القهوةُ فأغلقُ الدفتر، أرتشفُ جرعتينِ سريعتينِ من الفنجانِ بجانبي ثمّ أشعلُ سيجارةً أولى وأحدجُ الشّارع الطويلَ أمامي بما فيه من سيّاراتٍ مارّةٍ وكثيفةٍ.
في السّابق..
وقبل زمنٍ فاق العقدين تقريباً، قرّرتُ إحصاء المراكبِ العابرة من السيّارات الكبيرة والدرّاجات الناريّة في شارعِ حيّنا القديم، اشتريتُ دفتراً ملوّناً وجلستُ فوق حافّةٍ حجريّةٍ كبيرةٍ، معانقةً لجدارٍ بابنا الخشبيّ، قسّمتُ الصّفحة الأولى إلى قِسمين طويلين ثمّ دوّنتُ في رأس كلّ قسمٍ منهما اسم المركبة المعنيّة في العدّ، وبدأتُ التّسجيل، بعد خمسِ دقائقٍ، سمعتُ صراخ أمّي في نداءِها العصيّ لي، ركضتُ غاشياً البيت على عجلٍ، وحينَ وطأتْ قدمي اليمنى أوّل بلاطةٍ من ثرى دهليزنا الطّويل، كانت شاحنةٌ لنقل الخضار الطازجة والفواكه، من الريف إلى المدينة، قد اصطدمتْ بالحافّة الحجرية حيثُ أجلس، مُذ ذاكَ، صار للتّسكعِ فوق أرصفة الشّارع ورواكدِ الطّريق، طعمٌ وحلاوةٌ أخرى، باتَ لها دون أن أدري، روحُ الحياة الأولى وخفقةُ الموت الأخيرة.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.