اسمي عمران، ولدتُ قبل خمس سنين، أو بعد الثّورة بقليل في تقويم الحرّيّة أو المذبحة، حين سيأتي الشعراء على اسمي في غنائيّاتهم ببطولتي ستأخذهم المخيّلات إلى مجازين، سيقولون اسمه عمران، من مدينة الخراب، أو سيقولون إنّ طائرةً حاولت سحق عمر فتىً صغيرٍ، يدعى عمران، فأشهر عمره الثّاني عبر كاميرات الصحُفيّين من على كرسيٍّ في سيّارة إسعاف، كان انقلاباً على عمر عمران الأوّل فأسقطه، وبدأ عمره الثّاني، أمّا الجدّات فلسن بمخيلاتٍ تقلّ خصوبةً عن تلك التي يملكها الشعراء، سيقُلن في مرويّاتهنّ “لكلّ امرئٍ من اسمه نصيب”، وكان لعمران من اسمه نصيب، مع أنّ اسمي لا يعني ما سيقصدن.
اسمي عمران، وُلدت قبل خمس سنينٍ في مدينةٍ تدعى حلب، وحلبٌ هذه كانت قد مرّتها وخرجت منها عشراتُ الحضارات والممالك، من يمحاض العمّورية إلى سيف الدّولة الحمداني، وموسكو لم تكن قد بُنيت فيها حجارةٌ بعد، وحلبٌ هذه أعيت قلعتُها وحصونُها جيوش الصّليبيّن حين كانت موسكو مُحصّنةً بسورٍ من خشب، أحرقه المغول منتصف القرن الثالث عشر، ولم يكن أوّل قياصرة الروس قد وُلِد أيضاً. أدري، وأنا الطّفلُ قليلُ الدّراية، أنّني أجُورُ على طفلةٍ كموسكو حين أقارنها بحلب، إلّا أنّ زعماء موسكو همُ الذين اضطروني لذلك، هم وضعوا جمجمتي الصغيرة ندّاً لصواريخهم العملاقة، وخصماً لطائراتهم التي عبرت نصف الأرض، إلى أن وصلت باب مدرستي.
اسمي عمران، أذكّركم باسمي مجدّداً لأنّ المذيعة الحسناء التي أبكتها عودتي الصامتة المهيبة من الموت لم تلقظ عينه بالشّكل الصحيح، أنا أيضاً، مازال صعباً عليَّ حرف العين، نحن العرب، حروفنا ثقيلة، وأسماؤنا ثقيلة، لو كان لي اسماً أمريكيّاً أو روسيّاً لكان ألطف على لسان المذيعة الحلوة، ولربّما قام السّادةُ المشاهدون، وبينهم ملوكٌ ورؤساءٌ وأصحاب قلقٍ، بلا شكٍّ، بفعل شيءٍ أنجع من البكاء، أو أكثر عمليّةً من تذكّر صديقي إيلان. وعلى ذكر إيلان، دعوني أحدّثكم عن أصدقائي الذين لا تراهم الكاميرات، لي أصدقاءٌ في مضايا ودير الزور، بعضهم كاد يموت جوعاً، لكنّهم نجوا كما نجوت، والبعض الآخر مات جوعاً، وقد تعذّر عليه الحصول على حفنة حشيشٍ مسلوق. أنا أيضاً، كان من المُحتمل جدّاً أن أموت جوعاً، لولا فُكَّ عنّي الحصار قبل أيام. ولي أيضاً أصدقاءٌ في مخيّمات الأردن تتناهشهم الصحاري بحرّها وعجيجها، ولي أصدقاءٌ في مخيّمات لبنان، كان قد قتلهم البرد، ثمَّةَ بين أصدقائي مَنْ تصيّدت جماجمهم بنادق الجندرما التّركيّة، حين أرادت طفولتهم الدّخول كشحنة سلاحٍ فاسدةٍ عبر الحدود.
اسمي عمران، لو لم أُولد في حلب، لربّما كان أولاد بشّار الأسد أصدقائي، ولو أنّني وُلدت قبل أكثر من خمسة أعوام لكانتا ماريا وكاترينا فلاديمير بوتين أصدقائي أيضاً، ربّما كنّا سنلعب معاً بالطّائرات الورقيّة، تلك التي لا تؤذي الرّيح التي تحملها، ولا تطارد أحلام الأطفال الآخرين، كنّا سنلعب كاونتر سترايك على حواسيبنا الرّقميّة، ربّما لم تكن الطائرات الرّوسيّة لتلاعب جسدي الهشَّ، كما حدث بالأمس، حين رمت بقنابلها صوب غرفتي الصّغيرة الواقعة في أقصى فقر المدينة العتيقة.
اسمي عمران، ولو لم أولد في حلب، ما كانت أعمدة الاسمنت المدعّمة بالحديد ستجرؤ على رأسي وجسدي الصغيرين فتضمّهما كغولٍ، لي صدرُ أمٍّ أولى بذلك، كان بمقدور يدِ أمّي أن تداعبني بلطفٍ، كما يُداعب الأطفال في عمري تماماً، كانت أُمّي ستدغدغ بطني وعنقي وهي تغنّي لعمّورة الصّغير “باح يا باح، يا ورق التّفاح، هي أكلتو، وهي شربتو، وهي طعمتو…….”، أن يأكلني ورق التّفاح في أغنيّةٍ، خيرٌ من أن تأكلني الشّظايا الخشنة الفظّة، أو سقوف وجدران البيت المتداعي، يدُ أمّي أَحَنْ.
اسمي عمران، وحين ولدتُ قبل خمس سنينٍ، كانت أهازيجُ الحرّيّة تملأ المدينة، كان أهلي يرقصون على وقع أناشيدهم الحماسيّة “حلبيّة حلبيّة، نحنا رجال الحلبيّة، بدنا نسقّط النّظام، وهالعصابة الأسديّة”، سمعتُ كثيراً من مثل هذه الأُهزوجات حين كنت في بطن أمّي، لو كان معي توأمٌ لي، لشبكنا الأذرع بالأكتافِ وتمايلنا كلٌّ على الآخر، كمُتظاهِرَيْن في سيف الدّولة أو صلاح الدّين. لم أسمع موسيقىً هادئةً كتلك التي تحرص الأمّهات على إسماعها لأجنّتهنَّ فيتأثّرون بها، كان من المفترض أن ألِج الحياة غاضباً كإيقاع أُنشودةٍ ثوريّة، أن أصرخ غاضباً، أو متأوّهاً، أو باكياً، ولذلك هالتكم هدأتي حين أخرجوني من تحت الأنقاض، ماسحاً دمعتي ومتأكّداً أنهم لم يتركوا منّي شيئاً تحت الرّكام.
اسمي عمران، يُصرّون على وصفي بالبطل، وأنا لستُ كذلك، كلُّ ما فيّ يقول بإنّي ضحيّة، صمتي المُريب، الدمُ المنسال من قحف رأسي على جبيني، الغبارُ الذي طلسم معالمي، بكاؤكم، سيّارة الإسعاف، تكبيراتُ الرّجال حولي وحوقلاتهم، والأثواب الفوتوشوبّيّة التي ألبستموني، لذلك لا تَسِمُوني بما ليسَ فيَّ، أنا الضحيّة النّاجية من الموت، ولي رقمٌ لم يعد مهمّاً لكثرة من يشبهونني، وأنتم جميعاً حرّاس صمتٍ، أو شهود زورٍ، أو قتلة، حتّى أنّ كثيراً منكم لم يتجرّاً على الإشارة للمجرمين بإصبعٍ واثقة، لأنّ المعلومات التي وصلت إليهم “غير مؤكّدة”، ومنكم سفّاحون بثوب صُحفيّين، أَمْلت طائفيّتهم العفنة أن يقولوا إنّ ما جرى معي “تمثيليّة” .
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.