مسلسل صراع العروش مقتبس عن سلسلة روايات بعنوان ”أغنية من ثلج ونار / Song of Ice & fire“ للمؤلف الأمريكي جورج آر آر مارتن. وهي عبارة عن فانتازيا خيالية مستوحاة أصلاً مما يُعرف تاريخيّاً بحرب الوردتين، التي نشبت من صراع عائلتَي ”لانكاستر ويورك“ على عرش انكلترا. والتي تمّ تحويلها في المسلسل إلى صراع عائلتي “لانستر وستارك”.
هذا العمل الدرامي أنتجته شركة HBO وحتى نعرف ماهو مشروع هذه الشركة المنتجة يكفي أن نذكر بأنها سبق وأنتجت مسلسل ”The supranoes“ من ستة أجزاء والذي حاز على 21 جائزة إيمي وخمسة جوائز غولدن غلوب واختارته نقابة الكتاب الأمريكية كأفضل مسلسل تلفزيوني مكتوب على الإطلاق، واعتبرته مجلة TV Gide أفضل مسلسل في التاريخ لدوره في رسم الثقافة الأميركية في عقد الـ 2000.
بدأ جورج مارتن تأليف كتابه عام 1991 وتوالت الأجزاء التي يطمح لإكمال ثمانية من أعدادها. ومن الواضح أن الخيال لم ينضب عند الكاتب بعد ستة أجزاء من المسلسل الذي يتصدر اليوم أعلى نسبة مشاهدة حول العالم. وسط مديح النقاد لعبقريته في خلط موضوعات الرواية وتصويره للمرأة والدين وخلط العالم الواقعي بالسحري.
وعلى عكس ما هو نمطيُّ وسائدُ عن ”انفلات الغرب الأخلاقي“، فالعمل لم يسلم من نقدٍ حادٍّ لكثرة استخدامه الجنس والعنف واللاأخلاقيات في السلسلة برمّتها، المكتوبة والتلفزيونية!
في هذا المسلسل الفانتازي قد نَجد إجاباتٍ واقعيةً صالحة لكل زمان ومكان، لأنه مهما شطح في الخيال فهو ينطلق من أفكار إنسانية وكونيّة تتعلق بمحنةِ الإنسان عبر العصور والأزمنة في صراع النفس البشرية مع أهوائها وطموحها، ومع قوى الدين والسلطة والصراع المتوحش للاستحواذ على كراسي الحكم.
الإنتاج الأمريكي للمسلسلات التلفزيونية عادة يحتكم لنسبة المشاهدة وقد يتوقف إنتاج عمل ما بعد الموسم الأول حتى بدون أن تكتمل الحكاية، عندما لا يحوز على نسبة المشاهدة التي تحفّز جهة الإنتاج للمتابعة. وبلغة الأرقام بلغ معدل مشاهدة الحلقة الأولى من الموسم الأول ما يُقارب 2.5 مليون مشاهد، ارتفعت هذه النسبة إلى 9.3 مليون مشاهد. ثم إلى 11.6 مليون مشاهد في الموسم الثاني. أما الموسم الثالث فبلغت أعداد المشاهدة 14.2 مليون مشاهد تقريباً والموسم الرابع وصلت أعداد المشاهدة فيه إلى 18.6 مليون مشاهد. عدا عن حلقات المسلسل ”المُقرصنة“ على الإنترنت والتي يتابعها المشاهدون في شتى أنحاء العالم. بل وينتظرون ”قرصَنَتها“ حلقة حلقة.
خلال متابعتي لمسلسل صراع العروش، حاولت البحث عن المتابعين العرب وتعليقاتهم، وفوجئت بآراء مختلفة ومرتفعة عن سويّة تعليقاتهم على الأعمال العربية التي تنقل الآراء لمستوى الشتيمة وتصبح ساحة الرأي ساحة صاخبة بالسخط والغضب والرفض. فمثلاً أحد المتابعين علّق بدهشة كيف يجيب مسلسل صراع العروش في جزئه السادس عن أسئلة وأحداث بقيت معلقة منذ الجزء الأول، ومنطقية مرورها في السياق الحافل والغني بالأحداث والمفاجآت، وكأن الكاتب والمخرج يمسكان بتلابيبك ويعرفان بالضبط متى يقدمان لك الإجابة المطلوبة قبل أن تحين لحظة إصابتك بسهم الملل من الانتظار أو أن الإجابة أغفلت في الازدحام! كل شيء مدروس في المسلسل الذي تم تصويره في استوديوهات بلفاست بأيرلندا الشمالية واسكتلندا وكرواتيا وآيسلندا والولايات المتحدة ومالطا والمغرب.
إنتاج ضخم وسخيّ لأحداث تقع في قارّتين خياليتين هما ويستروس وإيسوس، حيث تتصارع سبع عائلات للسيطرة على العرش الحديدي للممالك السبعة. بينما يتهدد الممالك من جهة الشمال المتجمد خطر محدق لمخلوقات خيالية من الموتى الأحياء. بالإضافة لخيال السحر وأديان قديمة وآلهة متعددة وسلالة أبناء الغابة وخاصيّة رؤية الماضي وثلاثة تنانين ضخمة تخضع لإمرة فتاة وقوى خارقة مقابل الضعف الإنساني.
أيّ شطح بالخيال يمكن تنفيذه بإنتاج مفتوح على مصراعيه، وإتقان يصنع الدهشة والإعجاب والاحترام معاً.
فمن يحترم عقل المشاهد لا يمكن أن يلجأ للمطّ والتطويل في أي موسم من مواسم العمل. فالجزء الواحد يأخذ العدد المطلوب من الحلقات بلا زيادة أو نقصان. لذا فيمكن أن تتراوح الحلقات بين اثنتي عشرة حلقة أو عشر حلقات. غير مضطرين للالتزام بثلاثين حلقة تدور في موضوع واحد بالطول والعرض، يقتلك خلالها التراخي والبطء والإعلانات المكررة، حتى أشد الأعمال واقعية صارت تنأى بك بعيداً عن المفيد والمهم، والأعمال الفانتازية لا تأخذ خيالك أبعد من السطح، يشجعونك على الهروب إلى مالايشبهك ولا يفيدك، في حالة سائدة من التعويل على تضييع الوقت والعزف النشاز على نياط قلوب المشاهدين المتقطعة أصلاً.
ولنبق في موضوعنا، ففي مسلسل صراع العروش، الفانتازي، تُطرح قضايا عديدة تجبر عقلك على عملية الإسقاط على الواقع، المراتب الاجتماعية والدين والتطرف والحرب الأهلية والجنس والعلاقات المحرمة والجريمة وعقابها والولاء والعدالة. لايبخل الكاتب بابتكار ممالك ومدن وشخصيات مركبة غنية بالخصال، بالنبل والخسة، بالخطيئة والفضيلة، ومتاهات من العقد المتشابكة، والحلول التي لا تخطر على بال.
كلّ مملكة من الممالك لها عائلاتها وبيئتها وأزياؤها وعاداتها وتقاليدها ولغتها وشبكة من العلاقات التي تربط ”اللوردات“ ببعضهم بقرابات أو علاقات حب أو تزاوج مصالح، في صراع الجميع المستمر على حكم كل مقاطعة، وصراعهم جميعاً مع خارج حدود المكان.
فقارّة ”ويستروس“ تضم عائلة ”ستارك“ في الشمال، وعائلة ”آرين“ التي تحكم جبال الوادي، والجزر والأنهار التي تحكمها عائلة ”هوار“، ومملكة الصخر التي تحكهما عائلة ”لانستر“، وأرض العواصف وتحكمها عائلة ”براثيون“، وأرض الوصول المحكومة من عائلة ”تايريل“ ومملكة دورن وتحكمها عائلة ”مارتل“.. وعائلة ”تارجاريان“ المالكة التي سبق وحكم ملكها المجنون كل تلك الممالك وجمعها في العرش الحديدي الذي يجري الصراع حوله.
وفي المقابل هناك قارة ”إيسوس“ التي تضمّ أيضاً حضارةً ومدناً وعائلات وقبائل ولكل منها عمران وأزياء وعادات وقوانين وصراعات وتحديات.
وضوح رغم التعقيد، يجعلك لا تنسى على مرور الأجزاء أيّاً من التفاصيل. بل تنتظر مثل لاعب أساسي كيف سينجح العقل البشري المبدع في ابتكار مخرج لكل ورطة!
ويكفي أن أخبركم هذه المعلومة أنّ في المسلسل لغة غريبة تتحدثها قبائل الدوثراكي، وتم التعاون مع خبير لغات ليبتكر لغة غير موجودة أصلا بين لغات الأرض! أجل إلى هذا الحد وصلت حالة الخلق والإبداع.
في البدء كانت الكلمة:
قبل المسلسل بيع من رواية جورج آر آر مارتن 24 مليون نسخة وترجمت لأكثر من 45 لغة وصُنِّف الجزئان الرابع والخامس منها كأفضل الكتب بحسب صحيفة ”نيويورك تايمز“ واستغلها مبدعون في مجالات أخرى فانبثق منها روايات فرعية وقصص مصورة ولعبة فيديو والمسلسل التلفزيوني الذي نتحدث عنه! ولأنهم يحترمون المهنة والتخصص فسيناريو حلقات المسلسل يكتبها منذ الجزء الأول كاتبان معاً هما ديفيد بينيوف ودانيال وايز، بانسجام واتّساق كما هو واضح. أما جورج مارتن المؤلف الأصلي فيعمل كمنتج تنفيذي للمسلسل ويكتفي بكتابة حلقة واحدة في كل موسم!
مسلسل صراع العروش كعمل أصلي رُشح للعديد من الجوائز وفاز بالكثير منها، بما في ذلك ترشيحاته لـجائزة الإيمي للمسلسلات المتميزة للمواسم الأربعة الأولى، وجائزة الغولدن غلوب لأفضل مسلسل درامي. وعندما يكون طاقم العمل بهذه الحرفية يصبح الفريق بأكمله نجوماً على الشاشة وفي المجتمع العالمي. لذا لا تستطيع إلا أن تقف باحترام لتضامنهم مع القضية السورية واللاجئين السوريين. أن تصبح النجومية مفهوماً محترماً لا يغفل الإنسان. فلا يكتفي أفراده بالنجاح الذي حققوه في أداء أدوارهم. إنهم يعرفون مسؤولياتهم في الفن والحياة، وأن بين الفن والإنسانية رابطاً لا يمكن فصله وإلا هبط بالعمل وقيمته ونجاحه. فلم يديروا رؤوسهم لمصيبة وفاجعة تحدث في مكان ما على هذه الأرض.
لذا نشعر أنه من الإنصاف أن يحوز بيتر دنكليج “القزم” الأميركي الذي يتحدث اللهجة البريطانية بإتقان، العملاق في الأداء والقدرات، مالئاً مساحة الدور بجدارة في ستة أجزاء، على جائزة الإيمي والغولدن غلوب عن أفضل ممثل مُساعد عن أدائه دور ”تيرون لانستر“. ونصدّق تماماً فتاة صغيرة كالممثلة ميسي وليامز، تقوم بدور ”آريا ستارك“ التي تقطع رحلة مريرة بين الجبال والوديان تحارب بسيفها الصغير وتخدم في معبد إله الوجوه المرعب وتخوض معارك شرسة بحثاً عن ذاتها لتحوز اسمها ولقبها، وهي تتحدث بشجاعة عن تعاطفها مع المأساة السورية.
وبانتظار الجزء السابع من صراع العروش، لا أجد ختاما أكثر اختصاراً من أن أقول: “متل عنا بفرد شكل”.. وأترك لكم لعبة المقارنة مفتوحة بين ما لدينا في الدراما العربية وبين كل ماسبق.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.