الصفحة الرئيسية / نصوص / المكتبة / مقاطع من كتاب: رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء.

مقاطع من كتاب: رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء.

غلاف الكتاب، تصميم تمّام عزام. الصورة عن موقع فيسبوك

صدر قبل أيام كتاب رحلة إلى قبور ثلاثة شعراء: رامبو/كافكا/بيسوا، برفقة رياض الصالح حسين

 تأليف فادي عزّام

الناشر: دار جداول في بيروت

تنشر دحنون هنا مقاطع صغيرة منه -بشكل عشوائي ودون إضافة أيّ رأيٍ أو نقد-، ضمن خطّتها نشر مقاطع من إصدارات حديثة وقديمة بما يخدم القراءة والتّعريف بالكتب وبأصحابها، كما ترحّب دحنون بأيّ رأيٍ نقديٍّ لهذا الكتاب أو غيره، وتفتح باب المساهمة أيضًا في اختيار كتبٍ تستحق التذكير بها.

مع الشكر لفادي الذي خصّ دحنون بأول ما ينشر من كتابه. فيما يلي بعض المقتطفات:

– ”وصايا السّفر“:

التقط اثنتي عشرة صورة في كل جهة من جهات المدينة، ولكل مَعْلم تود التعرف عليه، لتكن نصفها لكَ ونصفها للمدينة، لا تحشر نفسك بالمشاهد المكتملة، لا تنظر إلى المدينة من العدسة، لا تسارع إلى الاختباء خلف الكاميرا، واجه الجمال أو التعاسة بعينين مفتوحتين وهدوء كامل، لا تخشى أن يفوتك ما يتحرك فكل المدن النابضة بالحياة ستبقى تبعث لك بشيءٍ جميل يتحرك.

– ”إلى فرنسا آرثر رامبو“:

أمشي في سان ميشيل الحي اللاتيني أبحث عن أثر ما لهذا الولد الأزعر آرثر. مررت بالقرب من فندق الغرباء، حيث قطن بضعة أسابيع حين كان يريد أن يكون ابنًا للشمس، ويخرب الحواس ليصبح رائيًا. هناك عند التقاء نهاية شارع راسين مع شارع كلية الطب. أقمت ليلةً واحدةً واستعددت للذهاب إليه.

شيء ما من باريس رامبو مازال يدل عليه «إن في نفسي ذعرًا من جميع المدن »، هكذا قال الولد الشاردُ الضال الذي لم تروضه باريس ولم ترضِه. فنال ما أرادَ، نقمةً جماعيةً حتى من أكثرِ المتحمسين له، ولم يمضِ على وجوده بينهم سوى أسابيع حتى نبذوه وأحرقوه حيًا.

-“طفولة مغموسة بالضوء“:

يُدهِش مديرَ مدرستِهِ وهو في سن العاشرة، فيقول لمدرسِ البلاغةِ: دعْهُ يقرأ كل شيءٍ، أعطهِ كلَّ شيءٍ. فقالَ معلمُ البلاغةِ: نعم أوافقُكَ إنّه ذكيٌّ لكن هناك شيءٌ في عينيه لا أحبُّه، ولا تعجبني طريقتَهُ بالابتسامِ، على كلّ سينتهي هذا الولدُ نهايةً سيئةً.

هناكَ أعدت قراءة ما كتبته يومًا عن وجوه باريس، بشعور من الرضى الداخلي وبانتظار الغد بفارغ الصبر.

إنها وجوه تهمسُ، لا بد من باريس، ولنقتلِ الفضولَ، تنفرطُ الأوجهُ، تغورُ أكثرَ، لا تحدِّقْ بها، لا تتوخى التعاطفَ، سمِّها، وانسلَّ بينها، راقبْها بحذرٍ وارف، بكِّرْ مع الندى، واحصدْ غايتك من العاصمةِ المأهولةِ بالزّكامِ.

-“أفكار متطايرة في سماء كحلية“:

كانت الساعة حوالي الثامنة حين ارتفعت الطائرة، مودعين باريس ومتجهين مباشرة إلى براغ. مدينة كافكا. مدينة مليئة بالأضواء والحياة مثلما كان يردد ريلكه. ويستحيل نسيانها حسب مقولة كافكا الشهيرة ”لن تتركك أبدًا براغ، تلك الأم الصغيرة الظاهرة مخالبها“.

جلست في المقعد رقم 21 هذا الرقم الذي يرافقني عادة ويدعوني للتفاؤل، حلقت لي وغالبًا رحلات الطائرات الرخيصة في أوروبا لها ضرائبها أيضًا. من الداخل الطائرة أقرب إلى باص سكانيِّ، الاكتظاظ والروائح وضيق المحل وكل الخدمات بدون أي وسيلة ترفيه لتمضية الوقت، يعني عليك إما أن تنام أو تحدق بالزمن الطائر الثقيل. أو تجد ما تشغل نفسك به، فأفتح دفتر الملاحظات وأكتب: أفضل طريقة للانتظار هي المشي.

البيانات التي أثرت في تاريخية الإنسان هي من النثر، ابتداء من نشيد الأنشاد الكتاب المقدس، مرورًا بالقرآن وليس انتهاء بالبيان الشيوعي، أما الشعر فكان خارج الزمن دائمًا. في الأزمات يتحول الشعر إلى حدث هامشي بينما تصبح خطبة رجل الدولة وإن كانت خالية من أي نوع من أنواع البلاغة هي الأهم.

– ”حفّار الكلمات، شاعرية كافكا“:

لم يتنبأ كافكا، وإنما رأى ما هو موجود هناك في قاع الإنسان. كشف أن علاقات الإنسان والقوانين الناظمة لتطوره، وبحثه عن سعادته وقيمه وفي أسباب وجوده ستؤدي بالضرورة إلى خلق الضراوة القاتلة للوحدة، والافتراس، والأوجاع الرهيبة التي لا تحتمل. فاستخدم الشعور بالذنب، كالمفرش الأساسي لشخصياته المنحوتة بإزميل فنان ماهر.

من هنا كان كافكا يؤدي مهمة الشاعر في الإضاءة والكشف، أكثر مما هو عليه كقاص أو روائي. يعمل على تحليل الظواهر وتشريح مملكة الإنسان الداخلية وتوصيف حدوده في الجغرافيا والتاريخ. فمن المساحات السرية للنفس الإنسانية، والعوالم الجوانية المستعصية على القول، ينبع الشعر. وتقتات الموسيقى بقدرتها الملساء على التسلل من دون الحاجة لقوانين الكلمات، فتصبح هي الأقرب للتبلل بالمادة الخام للغريزة والسمو والذاكرة الجمعية والفردية، فتختلط بهم وتخرج لتتحول إلى أصوات.

– ”في قلب الحسرة“:

أنا إذن في براغ، ومعنى الكلمة بالتشيكية القديمة الحسرة أو الندم، وحيثما تقع عيناي يتملكني شعور جارف بها، فالمدينة مسجلة كاملة على قائمة التراث الإنساني، واحدة من أجمل مدن العالم كما تقول التصنيفات السياحية، قلب أوروبا النابض بالجمال، حتى هتلر المُدمر، أبقاها سالمة تقريبًا ولم يحل عليها جامَّ غضبه حين اجتاحها بلا عناء. الحسرة التي تودعها بك مدينة بهذا الجمال، ولا تعرف لماذا.

الحسرة على رياض صالح الحسين، وهو يموت قبل بلوغ الثلاثين، والحسرة عليه كيف تم الاحتفاء به بعد موته، وبينما في حياته كانت تقهره أجرة الغرفة التي يستأجرها.

براغ لم تكن حاضرة في أدب كافكا، وليس هو من يستطيع أن يرشدك إليها، استطاع تجريدها من جمالها الشديد ليكتب المضاد تمامًا. لم تكن مدينته، ولم يكتب بلغتها الأصلية. فهو بقي يكتب بالألمانية وبنفس الوقت كان يقول عنها: لهذه الطفلة براغ مخالب من الصعب أن ينتزع المرء نفسه منها.

– ”هولان، وهول الشّعر“:

هولان في ضمير التشيك رغم أن هول الشيوعية قد تلاشى، لكنه بقي ناصعًا، ببساطة لأنه لم يكن يومًا شاعر القضية بل شاعر الإنسان. لم يكن شاعر منابر بل شاعرًا فوق الزمن.

شعراء القضايا، ينتهون بانتهاء قضيتهم أو يلتصقون بها. وأي خروج من دائرتها بمثابة سقوط حقيقي. كتاب المعارضة، يتحولون إلى اللاشيء حين تقوم الثورات ولا يشاركون بها، أو حين تتغير مناخات الأمم، وما كان جريئًا في شعرهم أصبح عاديًا في شعور الناس فيسقطون كذلك.

– ”قدمان من غيم تخطوان المسافة الأخيرة“:

إنه الأسقفي «يان نابومتسكي » تم رمي تمثاله في النهر في عام 1393 لأنه رفض الإفصاح عن سر الملكة «جوفيا » إلى الملك «فاتسلاف الرابع ». لكن في أواسط القرن 18 تم إعلانه قديسًا. ولكنهم لم يعيدوه إلى الجسر. وبدل من ذلك تم تثبيت صليب صغير من النحاس يحمل خمسة نجوم علي الدرابزين الحجري حسب المعتقدات، يمكن لكل من يضع يده علي الصليب بحيث يلمس كل إصبع إحدى نجومه الخمسة، تتحقق له كل أحلامه، لذلك لا غرابة أن تجد بشكل دائم أكبر تجمع للسياح بالقرب من التمثال المفقود، وهم يضعون أصابعهم الخمسة على المكان ويغلقون أعينهم مطلقين تمنياتهم علَّها تتحقق، طبعًا لم أفوت أن ألمس المكان وأشعر ببرودة النحاس وحرارة التمني.

-“كيش“:

جزيرة كيش، هي الوجهة المفضلة للمضطرين إلى مغادرة الإمارات، لقربها وانخفاض تكلفة السفر إليها، 500 درهم إماراتي للرحلة، تتضمن ليلة للإقامة في فندق الفارابي، وهو مأوى أقرب ما يكون إلى «غيتو » للانتظار يحتشد المسافرون في طوابير تتشكل بين ثلاث إلى خمس مرات في اليوم. يختارون بين إحدى الجزيرتين، قشم أو كيش.

وجوه ملفوحة بالحيرة. مقفلة على تساؤل مكظوم: أين نذهب، ولماذا نذهب؟ ثم خوف مبهم من الوقوع في فخ المجهول.

-“نوفمبر الشعراء“:

كان صديقي أنطونيو قد أخبرني أنّ قبر بيْسوّا في لشبونة، في دير الدومينيكيين منذ عام 1988 . نقل بالذكرى المئوية لمولده. وهو لم يعد في مقبرة مفتوحة على الهواء الطَّلق. مسٌّ من الحزن أصابني كيف لهذا الكاتب الذي تحرر من بيْسوّا نفسه أن يُحصَر تحت عامود من رخام، كيف تعدد ليعالج ألم الوحدة؟.

لأجل ماذا تتطلع أنت إلى المدينة البعيدة؟

روحك هي المدينة البعيدة.

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.