ثمّ كانتْ الأرضُ، مَحضُ وردَة.
وكان القمر، فَيْئَها.
أمّا الشّمس، فصارتْ جسراً بهيّاً من الأزل، مَعبراً تتعلّق في حبالهِ أسرابٌ لاتنتهي من طيور ” التودي “، تغنّي، تُحملقُ في النبيذ، وتطير.
أمدّ إصبعي نحو كوب الجعة، أدُسّه حتى النهاية، وأحرّك في رسمٍ دائريّ، أُسْرِع في التحريك حتى أخلُقَ دوّامةً فيه، وحين أفعل، أنتشلُ سبّابتي منه ثمّ ألعقها وأعبّ رشفةً بثِقلِ جبل.
تتفرّسني عاملة الحانة في نظرةٍ حادّةٍ وقوية، تبتسم بخفّة ثمّ تقدم لي لفافةً أخرى من التبغ الجافّ، تجلسُ أمامي، فيتهدّل ثدياها العامران فوق الطاولة الخشبيّة، تتسرّبُ يدها من تحت الطاولة ثمّ تَقرُصني بقوّةٍ في باطن فخذي، أتألّم، أخورُ، وبدلَ أن أصرخَ، أكملُ ما تبّقى لي في الكوب، برشفاتٍ متتابعةٍ أسمعُ فيها صوتَ حَلقي وهو يُجاهد في البَلع، أمسحُ فَمي بطرفِ قميصي الجديد، لتلحقني هي، بقبلةٍ شاءتْ أن تكون طويلة، أبتعد عنها وأقف مترنّحاً بالقرب من خوانٍ صغير، أطلبُ معطفي الثّقيل ثمّ أرتديه وأمضي هارباً من سمّ القُبل.
تشتدّ الرياح في الخارج فأضمُّ المعطفَ الصوفيّ نحو جَذعي ورقبتي أكثر، أدفنُ يديّ الباردتين فيه وأمشي متجهاً نحو حيٍّ ناءٍ في الشارع المقابل، أرنو ضوءاً وامضاً يعرّش فوق أحد البيوت القديمة الآيلة للسّقوط، وحينَ أغلقُ عينيّ، يُعيد الضّوء تكرار ذاته في الظلام المحيط، شمساً قويّة، تخفت ساعةً وتضيعُ، سرعان ما أشعر بدوارٍ شديدٍ ثمّ أتّقيء شيئاً ما من الداخل، شلواً أحمراً غطّته الدماء الساخنة، يتسرب الكرى إليّ فأغفو على طرف الطريق، رائحةُ مجرورٍ عَطنةٌ، عابقةُ بالعفن والرطوبة، مع صوت مرور السيارات فوق بقعٍ متراميةٍ من الماء، هو آخر ما كان لي من الليّل.
يوقظني عند الفجر نحيبٌ لمواءاتِ قططٍ، تتشاجر فيما بينها حول هيكلٍ عظميّ لسمكةٍ وحيدة، وبينما هي تنشغل بذلك، يقوم عجوزٌ من المشرديّن بسرق بقايا السمكة، فلا يجد فيها سوى العينين، ما يُمكن أن يؤكل، يفقأهما بكلا بَاهميه، ثمّ يمتصهما دفعةً واحدة. أشعلُ سيجارةً أولى ثمّ أقف على يديّ وأهيمُ على وجهي فوق كتف الأرض، أمطّطُ ساعديّ، أُليّنُ جانبيّ وخصري، وأعود إلى أول الشارع.
أبدأ العرضَ مع مرور أوّل الموظفين، سرعان ما يتجمّع طلاب المدارس ليبدؤوا بالصّراخ والصّفير، أقف على يدٍ واحدة، أثَقّل جسدي بطفلٍ من المتجمهرين، أرفعه فوق ظهري ثمّ أمارس تمارين الضغط بإصبعين، يصفّق الرّهط، يضعونَ بضع ملاليمِ، أُرجئها جيبي فاشتري قليل الطعام وأحفظ الباقي لبعض النبيذ.
تَشرع فتيات الكازينو المجاور بالدلف عند السابعة، يختَفي الشحاذون من الشوارع، أذهب إلى القصر، أحلق ذقني الكثّة، أنظف أسناني وأخذ حماماً ساخناً، أرتدي بذّتي الجديدة، ثمّ أعود إلى الحانة، أمارس القمار، أخسرُ، أثمل، أضاجع إحداهنّ في الحمام الصغير، أعود إلى الشارع، أتقيأ، ثمّ أغفو لليلةٍ تالية.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.