– ماذا بك َ يا حبيب ؟
– أريدك أن تكتبيني ياورد، أحبُّ أن أرى نفسي في سطوركِ، اكتبيني بقلم الرّصاص الذي لا يصدر أحكاماً بالإعدام على الجُمَل بتمريرِ خطوطٍ فوقها، خُذِي القلمَ والأوراقَ يا ورد وهيّا أعيدي صياغة حِكايتي على مزاجِ قلمكِ، ولتكنْ مسودتك هذه المرّة هي نصّك النهائي، اكتبي ياورد، من أوّل السطر…
(الخفْقة الأولى) حين تضيقُ بي الأشياء ألوذُ بِصدر امرأةٍ لا أدركها، أنّني لم أجرّبْ النوم يوماً على صدرها؛ على صدر امرأةٍ اصطنع الله قلبي على قياسِ حبّها، حين جرّبتُ صدْر ألفِ امرأةٍ سواها اختبرتُ الشّتات وعرَفتْ روحي تيهاً لا طاقة لها به، مُوقِنٌ أنا أنّ الغفوَ على صدرها لحظةٌ فارقةٌ لا تحدثُ في العمر مرّتين وأنّ الأشياء على صدرها تَصغر وتتلاشى كأنْ يولدَ المرء نقياً من رحم حياةٍ جديدة، على صدرها مثلاً لن أسمع نداءاتِ أخي الأصغر الأخيرة، فيما قبل الموت بلحظةٍ، بينما كان يُقاوم لئلّا تبتلعَه الماء، كان حظُّ أمي وافراً حين تسلّمتْ جُثمانَ أخي كاملاً فقد ماتَ أخي في المسبح حيثُ لا أسماكَ تنهشُه، قبل موسم الموت في عرض البحر بزمانٍ، على صدركِ يا ورد، لن تزورَني أمّي في الحلم تحمل سكيّناً بيمينِها وتقتصّ لأخي مني؛ أمي التي قضيت أعواماً أتجنّبُ النظر إلى عينيها اللتين تتهمانني بقتلِ أخي الذي لم ألتفتْ إليه حين كان يتلقّفه الموت وأنا في الجانب الآخر من المسبح، حادثُ سيرٍ كاد يودي بحياتي، دفع قلب أمّي لكي يتذكّر أنني وحيدُها الذي تبّقى وأنني ابنها، وما أنا بقاتلٍ، بَكَتْ أمي كثيراً من أجْلي، أو بالأحْرى من أجلها إذ كانتْ تخشَى أن تتكرّر مآساتُها مع فَقْد أخي من جديد.. مازالتْ أمي غيرُ آسفةٍ على السّنوات التي كفرَتْ فيها بمشيئةِ القدر واتّهمتني جُوراً بقتل أخي.
(الخفقة الثانية)
الخامسَ عشرَ من آذار / مارس عام ألفين وأحد عشر .. حين كنتُ أغطّ في الحلم السابع، قبل الصحو بساعتين أرسلتْ لي ورد من سوريا رسالة نصية قصيرة “لا أستطيع النوم يا حبيب .. إنني أشتهيكَ” دارتْ بي الأرض دورتين قبل أن أكتشفَ أنّني مازلتُ رجلاً بكراً لم يجرّب النساء بعدْ، في الصباح وفيما كنتُ أغلي كبركانٍ أعلنتْ نشرات الأخبار أنّ الجنود تصطفُّ في الشوارع، تتوعّد بالموت من قالوا لا، وأنّ البحر جائعٌ يبتلعُ الذين هَربوا من الموت بالمدافعِ بينما كانت الأسلحة الكيماوية تنتظر إشارة الهجوم، حين خرجتْ ورد -خُروجاً لحظيّاً مؤقتاً- عن الدور المرسوم لها وباحتْ بما لا يُباح تَبِعتْها الجُموعُ الغاضبةُ الجائعة إلى الحرية التي كَرِهَتْ انحناءةَ الرّأس وخرجَتْ عن صمتها الممتدّ عبر التاريخ، هل يسأل اللهُ ورد عن الآلاف التي ماتتْ عبثاً حين تبعتْها؟! هل يسألها الله عن سوريا ؟!
حين باحتْ ورد بما لا يُباح دُكّتِ جبالٌ وجفّتْ أنهارٌ واشتعلتْ الحرب وبدأ تاريخٌ جديد.
(الخفقة الثالثة)
حين أطالعُ المرآة في الصباح يتسلّل إلى قلبي ألمٌ خافت، يأتيني صوتُ ورد من حيث لا أدري “أحبّ الشعرات البيضاء التي تتكاثر على استحياءٍ في رأسكَ ولحيتك .. أنتَ وسيم يا حبيب وأنا أغار عليكَ كثيراً”
أبتسمُ وأنا ممتنٌّ للشيب الذي يدفع وردَ الحلوة لمغازلتي .. أبتسم راضٍ عن العمر الذي يولي مسرعاً دون غاية ودون وصول ….
(الخفقة الرابعة)
أتحسّس الشّقين القابعين تحت قفصي الصدري مباشرةً بطول عشرة سنتيمترات لكل منهما؛ الشقين اللذين كانا جرّاء جراحةٍ عاجلةٍ لاستئصالِ المرارة واللذين لم تفلحْ معهما كريماتُ التجميل باهظةُ الثمن، فبقِيا كنُدبتين أبديتين تذكرانِني بآثامي التي اقترفتها بحقّ جسدي، ما يزعجني حقاً هو ردّة فعلِ ورد حين تُطالِع عُرِي جسدي للمرة الأولى .. هل تقبل ورد ندبتيَّ اللتين أكرههما كثيراً ؟! هل تبقى تراني رجلاً يستحق الإشتهاء أم تتحاشى النّظر إلى ندبتيَّ في كلّ مرّةٍ أواجِهها بجسدي العاري ؟! آآآآآآآآه يا ورد؛ لو أنّ أصابعكِ تحسستْ الجرح يومها لتلاشى وزالَ حين يصيبه قبسٌ من نور قدسيّتك، لكنّك كنتِ أين وأنا كنت أين وما بيننا كانت آلافُ الأميال التي تضحك ساخرةً منّي …..
قال لي الطبيب أنّني وتحت تأثير المُخدّر كنت أقول له “توقّف عن خداعي يا لِصّ أنا أعرف أنك تستأصلُ وردَ من قلبي لا المرارة” هل عاقبني الطبيب بتركِ نُدبتين عمداً على جسدي ليزعجكِ للأبد ياصغيرتي كما أزعجتُه بكِ؟!
(الخفقة الأخيرة)
في بطاقةِ هويّتي في أوروبا الاسم لاجىء ..
كنتُ ساذجاً إلى الحدّ الذي دَفعَني للزواج بأوّل امرأةٍ أوروبيةٍ تقاسمني الوحدة وكنت قاسياً إلى الحدّ الذي دفعني إلى تسديدِ الضّربة القاتلة صوبَ قلب ورد، وحين كانت الأمم المتحدة تعقد اجتماعاتها لبحثِ الأزمة السورية، كنتُ أنا أهيم على وجهي في الطرقاتِ أتلمّسُ من ورد ريحَ عطرٍ أو أثرَ قدمٍ، كنت أنا أسلك كلّ مسلكٍ إلى ورد لأسألها الغفران، وفيما كانتْ تتمخّض الأمم المتحدة لتلدَ بيان شجبٍ وإدانة، كان قلب ورد يأبى الغفران لعاشقٍ يسبح في ملكوتها دون وجهة، لم تكفَّ الأمم المتحدة عن الدعوة إلى وقف العنف، ولم أكفَّ عن طرق كل بابٍ قد ينفتحُ بيني وبين ورد، لماذا لا تغفر لي ورد رغمَ أنّي أشهد بوحدَانيتها في قلبي ؟! لماذا تشربُ الأرض دَمنا ولا تشبعْ ؟! كيف ينامُ العالم مُطمَئنّاً بعد أن يتابعَ البثّ المباشر للموت في سوريا على شاشات التلفزيون ؟! كيف تنام ورد مطمئنةً وأنا أموت ؟!
– وماذا الآن يا حبيب ؟
– الآن وبعد أن غفرتِ ياورد لا شيء إلا الموت ينتظر أمام الباب
– هات يديكَ يا حبيب .. ثمّة حياةٌ بانتظار
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.