نجاة عبد الصمد
خاص لدحنون
في حرم كنائس خَرَبا و تحت رسم يسوع ومريم…
يفتح اللاجئون من درعا مصاحف قرآنهم. يرتلون، ويقيمون صلواتهم جماعة أو فرادى…
وبين جموعهم تدبّ حركة متطوعي الإغاثة من أهالي السويداء …
(يبدون وحيدين … لا أثر لمشرفين أو لسواهم…)
في القاعة الكبيرة يتدعثر لاجئٌ بلاجئ… صبايا تحفر الكوسا بصبايا تتبّل الرز… وصبايا تفرط أوراق الملوخية لإفطار الغد…
يتدعثر طفل يلعب بطفل ينام بهناء … و شيخ يسعل بشيخ يؤنب حفيده الراكض: (ستوقظ جدك!…للتوّ غفا…)
في كل قاعة حوالي مائة إنسان؛
لكن قاعات الكنيسة لا تضيق بهم… فجميعهم يبتسمون!
سجاد الأرضية نظيف وعلى الجانبين تصطف فرشات نومهم مطويةً على مهل، مفصولة عن جاراتها بفراغات مدروسة لا تغفل عن الحاجة إلى كل سنتيمتر من المكان وأمامها سلالهم و أكياسهم تشي بقدومهم السريع الخائف وتتشرب طعم احتمال الإقامة هنا إلى أجل لا تلوح تباشيره. في الزاوية بّراد “بردى” جلبه واحد منهم ليستخدمه الجميع، وغاز وحيد (بعين واحده) موصول إلى جرّة تخضّها امرأة بقوة لتجبرها على طرح ما تبقى في جوفها الذي كاد يفرغ
ولاتفارقها الابتسامة…
(لا روائح زنخة في المكان. الحمامات أيضا نظيفة رغم كثرة مستخدميها )
يتوزعون على الأرض حلقات تتسامر فيما بينها. فالوقت هنا هو الفائض الأكبر. لا يبدون فقراء. تتزين أيادي الكثيرات من نسائهم بالذهب. عباءاتهم نظيفة لكنها غير مكوية. محتشمون ومؤدبون. أصواتهم رائقة، نفوسهم شبعانة. لم يطلبوا شيئا أكثر من حبات السيتامول ومعاينة الأطفال ومرضى القلب والنساء الحوامل.
كنا بينهم متطوعين أطباء واختصاصيات تربيه ومتطوعي إغاثة جلبوا الخبز والخضار (لمن كانت خضرتنا من خير أراضيهم) والفاكهة والسكاكر للأطفال …
أطفالهم سكر نابت. ما أجملهم !
قالت طفلة منغارة من أنني أحمل طفلة أخرى محمومة: شيليني أنا!…
وهمستت أخرى وهي تخبئ وجهها بكفيها: أنت حلوة يا خاله!…
وصاحت ثالثة من بعيد: تعالوا لعندنا كل يوم!….
وقع لوم على امرأة جميلة نبيلة الملامح تتنقل من طبيب الأطفال تأخذ منه دواء لأطفالها وعلبة حليب، إلى طبيبة النسائية تشكو أوجاعها إلى المرشدة تسألها وتستمع وتطلب وتلحّ وتُعلي صوتها:
(أنا من قبل اللجوء كنت أرملة… ثم: من أول هاي السنه ما ظل إلي حدا… سامحوني!..)
تذكّرت كلمات حماتي(ساكنة الثرى) حين كانت توصينا حتى في زمن السلم: (لا تستكثروا شيئا على الأرملة؛ حتى لو كانت عتبات بيتها من ذهب وفضة)…
ولمن لا يعرف خَرَبا: هي آخر ضيعة في جنوب غرب السويداء… جارة درعا
منها يطل اللاجئون من درعا على قراهم القريبة من مرمى البصر، البعيدة عن أحلام الأمان: يحرسونها بعيون يجافيها النوم، ويصلّون لها بقلوبهم علّها ترتاح من قصف ينصبّ عليها من المدافع المنصوبة إلى جوارهم هنا في الليل ، ينتظرون الصبح ليذهبوا ويتفقدوا الدمار الجديد يقسّمون أنفسهم مجموعات حراسة متتالية في النهار لإنقاذ حديد الشبابيك والأبواب من النشّالين. وسوى ذلك لم يعد في البيوت شيء. فالزجاج هرّ منذ القذائف الأولى والمحاصيل تلفت منذ رفعوا أياديهم عن سقايتها وتدليلها…
ومع المغيب تبدأ اتصالات النساء بزوج أو ابن أو أخ ما زال هناك: ما الذي يؤخركم هناك ؟! هيا تعالوا… نحن نراهم من هنا … لقد نصبوا المدافع… أوشكت حفلة الليل أن تبدأ …
أتملّى وجوههم وهم يخبروننا بهذه اليوميات ويبتسمون!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.