ما أردتُ شيئا أكثر من أن أهتف، أن أختبر كيف يعلو صوتي: الله سوريا حرية وبس. أن أقول لصلاح*: أحببتك أيها الشهيد الشهم، أفرحتني سيرتك. أغضبني أن يقتلوك لأنك غنّيت لأطفال حلب. لم أعرفك يوماً. لكنك: كأنك أنا فيما أريد ولم أستطع بعد أن أكون.
كنا تنادينا من على شاشات الكومبيوتر في بيوتنا. تعاهدنا ألا نكتفي بالغليان المحتقن خلف مقاعدنا. على الطريق إلى تأبين صلاح قال لي رفيقي: لن نهرب اليوم. سأفسح للرصاص أن يخترقني. لن أجبن.
موعدنا الساعة الواحدة. عددنا نحن الشباب والصبايا الصغار فاق المائة. لكنهم كانوا بانتظارنا: باصا اعتقال يسيل منهما شبيحة سمينون، يحدقون فينا كأننا إسرائيليون. وخلفهم سيارات أمن كثيرة، كثيرة. في الحقيقة كانوا أكثر منا عددا.
بالكاد هتف الشجاع منا: لا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله. هجموا بشهوة الأذى، بلياقة الذئاب، بالتماع الحقد. سينفجرون إن لم يبطشوا. في قبضاتهم أسلاك معدن وعصيّ كهربائية تجيد مهماتها. عليها أن تضرب ولا تميت، ولا تمعن في الأذى. يكفي أن تُسهّل التقاطنا كطرائد هزيلة تُساق نحو الباص. بعد رحلة الباص وفرةٌ من متطوعين آخرين يتكفّلون بالباقي. لكنّ قطيعهم لم يكن سوى ربع المشهد. أتانا الفتك من خلف. المرأة المسعورة لم يصعب عليها أن ترمي البلوكة من سطح بيتها بهمّة قناص لا يكترث لظهوره السافر. تنتشي وهي تلحق البلوكة الثانية بالأولى التي أصابت عددا منا. مع الثالثة تجنّ فرحاً بنجاحها الباهر في اختبار دقة التصويب. تستثمر الوقت بين رميتين لتصيح أعلى من أصواتنا: ملعونون يا أجداد صلاح. 15 سنة ونحن جيران؛ ثم تجلبون الزعران إلى حارتنا. انقلعوا أنتم وهم.
يهطل البلوك من عزم يديها حتى ينفذ ولا ترتوي. فنحن لم نهرب جميعا بعد. أكبرنا في العشرين. نحن أيضاً نختبر صمودنا. نحاول أن نعيد الهتاف الأزعر مثلنا: لا إله إلا الله. تتابع قصفنا بالأحذية. امرأة مقدامةٌ حقا. تضحي بسربِ أحذيةٍ أطفالها على فلولنا الهاربة من الساحة. يطالنا مرمى الحذاء أبعد مما تستطيع البلوكة..الفردة التي صفعت أذني وارتدّت إلى الأرض شغلتني: لم تُلبس إلا قليلا، حمراء، بزيق كحلي اللون، تزينها وردة فضية لامعة. تعود لفتاة . هل ستفتقدها البنت التي عمرها على ما أعتقد سبع أو ثماني سنين؟! هل ستبكي على حذائها شبه الجديد؟! ليت لي الوقت لألتقطها وأردها إليها عندما ينفضّ هذا الحشر. لن أتخيلها تبكي. لا أريد أن أحزن الآن.
على سطح البيت المجاور امرأةٌ ملثمة بزي الأجاويد تتكفل بمن ابتعد منا عن ساحة التأبين قليلا. ترقب بعيني بومة كل زاروب يتّجه نحوه الشباب الهاربون. تصيح بالشبيحة: يا نشامى: هذا كلب هنا، وذاك آخر. وهذا الجرو يلطى هناك. صديقي الذي لن يجبُن: جبُن. جرّني من يدي. لم أقاوم إلاّ قليلا قبل أن ألحق به. صرنا في هول القيامة التي تحكي عنها جدتي . أصيح: لا تهرب يا علاء!. رجلا علاء أسرع من صوتي، وأذكى من عزيمتي. أحسبني الجرو الذي أشارت المرأة الملثمة إليه. كنتُ صرت على درج حجر أسود رصفه أهل البيت الأبعد قليلاً عن الساحة. أظنهم رصفوه على عجل. فالحجر خانني ووقعتُ. خان مظاهرتنا حتى الحجر. ووفت بوعودها أسلحتهم: بواري الحديد، عصيُّ الكهرباء، القنابل المسيلة للدموع، الرصاص المطاطي، وربما الحيّ، مطر البلوك الصغير تتابع الجارة القنّاصة رشقه، قبل أن تهتدي إلى المفكات ـ عدة تصليح أغراض بيتها، تضحي بها أيضا بنشوةٍ أستهجن من أين تتنزّل عليها. أتأملها بأناةٍ من مكمني الذي صرتُ فيه في زاوية حاكورة الجيران لصق درج الحجر البوّاق بي. كنت حاولت الوقوف بعد سقطتي، فإذا برجلي تلوح وتنقسم بمفصل جديد وُلِد للتوّ في ساقي اليسرى، يخصني وحدي من بين البشر، صار فيها أربعة أنصافٍ من العظام، أعتقد، ونثار من عظام صغيرة، أعتقد. خذلتني في المشي، لكنها رحمتني من أدنى ألم. في عظامي المهشمة بعضُ وفاء المحاربين. أراني الآن محاربا عظيما، فتيّا كالإسكندر المقدوني، وحكيما كعمر المختار، يلهمني انقسام ساقي أن أرتكي بيدي على الأرض الحنون، وبالأخرى على جذع الشجرة القريبة، وأزحف بجذعي إلى الخلف لأنحشر بين الشجرة الكبيرة وأقصى زاوية الحاكورة. بإمكاني أن أراهم يقبضون على رفيقي وفتاةٍ قريبة منه. يدسونه في الباص، ويطلقون سبيل الفتاة(قالوا لنا ألا نعتقل البنات ـ يصيح الشبيح)، وبإمكاني أسمع زوج الملثّمة يصيح بها: يا حرمة انضبّي على البيت. ولا تردّ. عصيان الزوج حلال حيال نداء (الواجب). الفدائية ذات البلوكات ما زالت تجعر وتبحث عن أيّ غرض يصلح أن يصير قذيفة ترميها على رؤوس الأشقياء الصامدين في الساحة.
لم يهدأ وجيب قلبي. أتوسل إليه: إهدأ يا جبان. دعني أفكر. صاحبة البيت الذي صرت في حاكورته تتفرج على مسرح المعركة من شباك غرفتها. لم يبدُ أنها رأتني. أسحب الموبايل من جيبي. شاشته محطمة. الموبايل أيضا خائن. إذا أنا مقطوع عن العالم في هذا الوكر الأمين. سأبات الليلة هنا. قد أموت من البرد حين سيأتي الليل. أسحب الشاشة. يضيء اللعين. ما زال فيه رمق. أنقر رقم صديقي. يرد: أنا هربت وأنت؟ أقول: رجلي مكسورة. يقفل الخط. ربما شوّشه الذعر. أتصل برقم حبيب أحفظه غيبا. ترد صديقتي. أقول لها: رجلي مكسورة. تنفجر بكاء وتقفل الخط. حتى أنتِ يا عصفورة؟! سأفكر في عبارة قصيرة تأتي بهم إليّ. لكنّ رصيدي انتهى. تتصل ماما. ماما آخر من يجب أن يعلم أين كنت. أبادرها قبل أن تسألني: أنا مع رفاقي. لن أتأخر. مضت ساعة ونصف ولم يبق في الساحة سوى الشبيحة. من مكمني أصغي إلى صوت الغناء في بيت الشهيد: سكابا يا دموع العين سكابا.. على شهداء سوريا وشبابا…أعرف فيما بعد أنّ أحدا من الشبيحة لم يهجم على بيت الشهيد. هي التوصيات بعدم استفزاز أهله شخصيّاً. لو كنت أعلم للجأت إليهم، ولما كسرت ساقي. اتصال من صديقي الذي ثاب إلى رشده، وأوكل أمري إلى أبيه. أظلّ ساكنا كجماد لساعة إضافية قبل أن أسمع حركة على الدرج. أنتفض. كنت وجدت لصقي بعض الأغراض المركونة: قطعة أنبوب بلاستيكي عريض ، وبوري من حديد. وأشياء صرت أفكر في استخدامها. حاولت إدخال رجلي الرخوة في الأنبوب علّه يسندها، فأستطيع الوقوف، لكنّ شدة الألم أفقدتني صوابي فنزعته. مع صوت القادم استللت بوري الحديد. قلت سأضربهم به ولن أدعهم يقتربون لاعتقالي. قال الرجل حين رآني: لا تخف يا بنيّ. أنست لصوته. لكلمة” يا بنيّ”. لا يمكن لرجل أمن أن يلفظها. لا يعرف كيف يلفظها. يقترب مني فيأتيه صوت صاحبة البيت من الشباك: لا تقترب، وإلاّ… يشير الرجل لي بيده أن أهدأ، و يسير إليها. يتلاسنان قليلا. أفهم أنها لن تسمح له بالاقتراب مني. لن توافق أن يراه الشبيحة يخرجني من بيتها، فيهجمون ويكسرون زجاج أبوابها، ويدوسون ورد حديقتها. يستسمحها الرجل بأطيب الألفاظ. يبوس رأسها. توافق، على أن تتأكد ألا أثر لبشري على الطريق، وعلى أن يخرجني عبر الدرج الزلق ذاته، لا من مدخل البيت الرئيسي في الجهة المقابلة. لم أر هذا الرجل من قبل. ظل والد صديقي يبحث عمّن يملك سيارة بزجاج عاتم كسيارات رجال الأمن حتى وجد هذا الرجل الذي قبل بوضعي في سيارته وأخذوني إلى المشفى. أحتاج جراحة كلفتها ثقيلة على أهلي لو لم يكن حولهم محبون. سيدفعونها بالأقساط ربما على مدى سنة ليعيدوا إلى أصدقائهم ما أقرضوهم من مال، ويعيدوا إلى خالتي، وإلى زوجة عمي فكاك رهن إسوارتيهما.. أيام طويلة مرت قبل أن يضعوا الأسياخ المعدنية في رجلي لأستطيع الوقوف. أفقت على يد ماما على جبيني المحموم . تلمّست رجلي في مكانها وفرحت. وإن كانت الأسياخ ستبقى في ضيافتي حتى آخر العمر؛ لكنني حيّ، لكنني اختبرت صوتي حين عاليا هتف:
الله، سوريا، حريّة ، وبس…
* المقصود هو الشهيد صلاح يحيى صادق،
قضى بتاريخ 02/01/2013 في حلب إثر قصف طيران النظام على المدينة
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.