كيف حال دير الزور؟
سؤالٌ لا يؤلم صديقي المهاجر إلى ألمانيا
لا يؤلمه إن كانت ما تزال على حالها هناك تلك الصور المصفّفة بأناةٍ في زاوية الصالون في بيته المهجور، ولا يهتمّ إن كان والده ما زال يتربّع في مكانه وسط إطار الصورة المزنّرة بالأسود، ويحكي لابنه الجالس بأدبٍ وسط إطار الصورة المقابلة عن أيام زرع النخيل في الأرض السخيّة، أو كيف كانوا (أيام زمان) يحملون الخراف الوليدة إلى أمهاتها في المرعى البعيد لتعطف عليها فتسخو بالحليب، أو عن حلاوة رشف الشاي المخمر وسط بيدر القمح في لظى الظهيرة…
ولا يؤلمه إن كانت ما تزال هناك عيادته، وسط المدينة التي مرمرها الهجران بعد أن دوّخها القصف وقصم ظهرها الخذلان… عيادته هناك بجانب “جامع الحميدي”، وسط دير الزور المدينة… ربما لم تهرهر من قصفٍ أو حريق، لكن قلبها انشوى من وجع الفراق ووجع الشوق؛ كما لم تنشف عن حيطانها دموع النساء المنتظرات بصبر، النساء التائقات إلى العافية وإلى الذرية
دمع صديقي الذي لا ينشف في ألمانيا اليوم ليس بسبب هذا كله.
(الحجر بيتعوّض، والذكريات بالقلب مو بالصور…)
يؤلمه أن صديقه الطبيب الذي منعه يباس القلب من الرحيل عن دير الزور، صديقه الطبيب الذي مات بنوبة القلب، وكان الدواء حاضراً لكنه لم يذق منه حبةً، كان مشغولاً بنداء فؤاد: (سأموت فقط لأن فؤاد ليس بجانبي… وينو فؤاد؟ فؤاد وحده يعرف يدوايني… اسألوا فؤاد بالأول عن الدوا…). ولم يلحقوا أن يسألوا فؤاد. فؤاد المهاجر.
الدكتور فؤاد في ألمانيا، يشغله الدمع على فراق صديقه، يؤخره عن دروس اللغة الألمانية وعن النزهة في الغابة السعيدة، وعن محاولات (الاندماج) بالبلد الغريب، تلك المحاولات التعيسة القاصرة…
ترى من ذا الحكيم الذي يتكهّن: لماذا ينصرف أحدنا عن حزنٍ عظيم، وينشغل بحزنٍ ضئيل، وأي حزن منهما يأكل قلبه أكثر من سواه؟ وكيف تطغى أمنية الإمساك بيد صديقٍ يحتضر، وإسنادها حين ترتخي، كيف تطغى أكثر من الرعب على بيتٍ يحترق أو مدينةٍ تحتضر؟ وهل حقاً موتُ صديقٍ قد يتلف القلب أكثر من موات وطن؟!
الصورة: مقطع من عمل لتمام عزام
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.