ملامح وجهه الحزينة والتغاضين التي رسمتها السنون علىيه تعطيه تقديرًا يزيد على عمره عشر سنوات على الاقل. معاناة طويلة كابدها أبو النور في حياته، فلم يكد يستقر في عمله الجمركي في أحد المخافر الحدودية حتى أصابته طلقة أحد المهربين في عموده الفقري كانت كفيلة أن تلزمه الفراش منذ خمسة وعشرين عاما…
حزينة، مريرة هذه الأيام يا صديقي.
قالها أبو النور بعد أن اعتدل على فراشه ومد كلتا يديه إلى إحدى رجليه المشلولتين وسحبها إليه وكذلك فعل مع الثانية، ثم مدّ يده إلى كيس الدخان وراح يدرج سيكارته وهو صامت، ثم قضم حوافها بما تبقى له من أسنان، بعد أن بلّل أطرافها بريقه ونفث سحبته الأولى ليرسل سحابة من الدخان الكثيف، عاد إليه بعضه عن طريق أنفه وما تبقى حبك مع الدخان المتصاعد من مدخنة الحطب غيمة راحت تبحث عن المدخنة ..
نظر إلي وكأنه يعاتبني على السؤال وقال:
تسألني كم مرة خرجت من البيت منذ أُصبت بالحادث؟ سأذكرها لك. ذات مساء رمادي جاء إليّ عدد من أطفال الحارة مهرولين خائفين ينقلون إلي خبرًا أن حفيدي أصيب بحجر على رأسه وقد أُسعف الى المشفى، وما هي إلا ساعات قليلة حتى وضعوه أمامي جثة هامدة،
حسن يا حبيبي، أنت وحيد أبيك.. لمَ يا بني؟. كيف تركت أباك يا حسن على جبهات القتال دون أن تودعه؟
طلبت من الجميع الخروج من الغرفة بعد أن وضعوا له فراشًا إلى جانبي وتغطيت معه بغطاء واحد حتى الصباح لأحمل معه إلى المقبرة، ذلك كان خروجي الأول.
ولم تمض أيام قليلة حتى جاءني من يحمل والد حسن وهو مقطوع الرجلين نتيجة قذيفة أثناء الهجوم على أحد الحواجز، ولك أن تتخيل شعوري وأنا أرى ابني البكر مقعدًا إلى جانبي كحالي، لم أستطع احتمال سماع أنينه وطلبت منهم وضعه في غرفة بعيدة، وقلت في نفسي، الشر بعضه أهون من بعض. الحمد لله.
حملوني إليه ذات مرة رأيت الدموع في عينيه، قلت له : كنت أظن أني قد خلفت رجالا، قال:
لا يا أبي، ليس كما تظن، ولكن أليس من المبكر خروجي من المعركة؟
قلت: ذلك قدر الله يا بني وهو طريق اخترناه بملء ارادتنا ولن نتركه.
ساءت حالته واشتد صريخه وحملوه الى المشفى بعد أن أسدلوا الستارة كي لا أراه، بعد ساعات وفي المساء أيضًا عادوا ليسجّوه أمام ناظري، طلبت له فراش ابنه الراحل وغطاءه، كما طلبت تركي وحيدًا مع ابني تلك الليلة.
مرير هو الشعور الذي ينتابك وأنت ترقد الى جوار ابنك البكر عندما يكون قد فارق الحياة، أية كلمات تسعفك في هذه اللحظات الرهيبة؟، وأية ذكريات تجتاحك في هذه الليلة الظلماء؟، وأي شعور نبيل؟
هل أذكر أيام طفولته وهو يتعثر في خطاه الأولى وأنا أحضر له السكاكر والألعاب التي يحب؟ أم أيام ذهابه الأول الى المدرسة وبعد أن أدخلته الصف رأيت الدموع في عينيه وكأنه يتوسل إلي أن لا أتركه، الأمر الذي دعاني الى العودة سريعًا إليه لأضمه الى صدري وأعيده ذاك اليوم إلى البيت. أم يوم زفافه وقد حملوني معه على الأكتاف في دبكة دائرية، فرحت كثيرًا يومها وقلت في نفسي: لاعليك يا أبو النور، ها قد تزوج ابنك وقد جاء من يحمل عني بعض أعباء الحياة. أم أذكر دعاء أخته الفقيرة له في مطلع كل شهر وهو يرسل لها ولأولادها المصروف؟ أم يوم جلس إلى جانبي وحمل كأس المتة ورشف الرشفة الأولى، عندما شاهد اثنين من رفاق السلاح في طريقهم إلى الجبهة وطلب منهم الإنتظار ليحملهم في سيارته، ويسمعون صوت الطائرة، ويتركون السيارة على عجل ويبتعدون قليلاً قبل أن يمزق الصاروخ السيارة ويقفوا ينظرون إلى بعضهم بعضًا وقد غطاهم الدخان والغبار..
مشاعر كثيرة عشتها تلك الليلة قبل أن يقطعها النداء الخالد، الله أكبر.. الله أكبر معلنًا بزوغ يومٍ جديد.
في الصباح حملوني معه الى المقبرة في خروجي الثاني.
وبعد شهور قليلة، وفي الهجوم الأخير على أحد الحواجز جاء من يقول لي إن ابني محمود وهو الأصغر أصيب بشظية فقد نظره على أثرها وقد أسعفوه الى تركيا!
قلت في نفسي: الحمدلله، العمى أهون من الموت، ولكن القدر كان له رأيٌ آخر، إذ بعد أيام قليلة جاؤوا به مساءً وسجّوه أمامي جثةً هامدة!
طلبت له فراش أخيه وغطاءه وتركوني مع ابني هذه الليلة أيضًا.
نظرت إلى وجهه، يا الله، هذه الشظية الملعونة تركت كل وجهه واستقرت في عينه؟ لا.. لا اعتراض على حكمك يا رب!!
لمَ العجلة يا بني؟ كنت أمني النفس أن أراك عريسًا، أن أرى أبناءك حولي، أن تملأ الفراغ الذي تركه أخوك. الحياة كانت أمامك يابني، لمَ اخترت الرحيل؟
بلى يا بني، إنهابلدنا، أرضنا، تاريخنا، يستحق منا. ذلك قرارنا وذلك أمر الله
في الصباح حملوني معه الى المقبرة، ذلك كان خروجي الثالث!
وفوق ذلك يا صديقي جاءت بنتي إليّ منذ ثلاث سنوات ومعها أربعة أطفال صغار بعد خلاف مع زوجها الذي نسي أن عنده أطفال.
حتى ابني الوحيد الذي بقي على قيد الحياة لم يحتمل فقد أخويه وموت عددٍ من أصحابه، وراح يمضي جلّ وقته في تقليب الصور ومقاطع الفيديو التي تحكي ماضيهم تاركًا هموم عائلته على عاتقي أيضا.
عشرة أطفال دون العاشرة يتحلقون حولي،, وأنا العاجز المشلول، تسألني نظراتهم بعد أن عجزوا عن الكلام: نريد أن نحيا، أن نعيش كباقي أطفال الناس.
حول المائدة شاهدت إحداهنّ (تعرعد) العظم دون أن تحصل على شيء من اللحم، فالقصاب الحاج ياسين حلَفه على”بيت الكراد” كما يقولون، فقلت لها: لا عليكِ، في المرة القادمة سأحضر لكم أقفاص الدجاج لوضعها تحت المحشي، فيها لحم كثير، كم فرحت عندما رأيت ابتسامة الرضى والأمل تغمر وجهها الجميل.
كم أتمنى يا صديقي أن يكون خروجي القادم دون عودة …!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.