لم تنته الحرب بعد، جسدي غيّره الرصاص ووجهي فقد نصف ملامحه. أصبحت شخصاً آخر تخيّم عليه وحشية الليل، في كوابيسها وصور الوجوه التي أعرفها، والتي رأيتها مرة واحدة قبل أن يغطيها التراب.
مرّ الكثير على المعركة الأخيرة؛ لم أعد أعرف الشهداء من أسمائهم. ليس للشهداء قبل موتهم اسم، ملامح الوجوه ومواقف الحرب هي الإسم الوحيد للشهداء.
قبل أربع سنين من الآن، كانت فرحة الحرية ترافقنا في الأغاني التي كنا نرددها في الليل، في رقصاتنا الثورية أمام شارع القناص، محاولين إقناعه بأن الأغنية تخرس صوت بارودتك، وأن هذه الرقصة لك فقط؛ كي تعرف أنك وحدك الخائف من صوتنا، ووحدك الخائف من الليل.
على رصيف الشارع المقابل للقناص يخرج صديقي (محمد عباس) في كل ليلة ليوقظه من ثباته، يترنح أمامه كراقص لا يسمع سوى صوت قدميه، ثم يقف على الرصيف ويغني “حانن للحرية حانن” كي يخبره مجدداً أنه رغم اقترابي من رصاصتك، إلا انني بعيد في حُلمي.. بعيدٌ جداً.
يفرغ لنا القناص غضبه من صوت الأغنية، يطلق الكثير من الرصاص في الهواء حتى يجعلنا نضحك من فرط غضبه، ويصرخ محمد مجدداً؛ “اضرب يا جبان اضرب” بلهجة ريفية خاصة به فقط.
لستُ جيداً في الوصف، فالرغبة في الموت كانت تسكن هذا الشاب بشكل همجي، تمرُّ امرأةٌ من جانبنا فتقول “شباب بعمر الوردة ليش ما تشوفوا حياتكون وتتركوا الحرب” فيرد هو الآخر “الحرب هي حياتنا يا خالة…”
هكذا هي القصص التي كانت تجبرني على جمع كل الأفكار المخيفة عن الموت ورميها بعيداً، والبدء مما قاله هذا الشاب؛ الذي كان يعرف جيداً أن الحُلم أكبر بكثير من عمره وكلمته.
يوقظني (محمد) كل صباح بسيجارة “حمراء طويلة” ينفخُ دخانها في وجهي، او نكزةً ببارودته، ليخبرني بما أحدثت الحرب فيه، وأنه رغم كل ما سيحدث لاحقاً أو حدث، يعرف الحب طريقاً لقلبه، ولهذا دائماً كنت أحاول حل لغزه وتناقض النظرتين في وجهه؛ نظرة العاشق، والمحارب.
محمد، ولجمال صورته في داخلي؛ حدّثت الجميع عنه، لا أستطيع نسيان وجه المحارب الخجول، وجه الشاب الذي كان يسرد لي قصّة حبّه كل يوم بطريقة مختلفة، ثم ككل مرة ينتهي منها ليقول لي: “لن تفهم أبداً حالتي” ويبتعد ليجلس وحيداً.
لم أكن أعرف أي قصة سأكتب عنه، كيف لأحد غيري ان يكتب عن الحالة التي كانت في هذا الشاب، حتى هو كان يشرب سيجارته كاملة وهو يحاول لفظ كلمةٍ واحدة تصف حالته المتمردة عليه، فالموت المحيط بنا أصعب من أن يوصف بعلبة سجائر.
بعد شهر واحد من غفوة الحب التي أصابته اتى الي مسرعاً شاحب الوجه، يقف أمامي بسيجارته الطويلة، يخبرني بأن الحب كسره كما تكسر القذائف الأرض.
بعد شهر من إصابتي، تلقيت اتصاله الأخير، أخبرني بأنه لم يعد هناك ما يقلقه، وأن كل الأفكار التي كانت تبعده عن المعركة قد انتهت، ثم وعدني بزيارة قريبة، وأغلق الهاتف.
إليك أكتب كل النصوص التي لا تعرفها دور النشر، وإليك أقف دون رجفة في جسدي؛ كامل الذكرى.
ستخونني الذاكرة يا صاحبي، لن أجد المساحة الكافية للكتابة عنك، إنما أحاول جمع دخانك المخيم على وجهي، وأتذكر قصة واحدة فقط..
هل تتذكر يا صديقي؟
حين كنت تنظر إلى السماء وتضحك دون سبب؟
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.