ويا ناصر.. انتهيتَ إلى بلقعٍ آمنٍ لا حروب فيه ولا قضايا عظيمة.
بلقعٍ نظيف حدّ الوسوسة، وأخضرٌ حتى الضجر، وموحشٌ حتى الكآبة…
تصحو عند الفجر، هي عادتك منذ مواعيد التدريب في المعسكر، ترنّ ساعة صدرك عند الخامسة، ترتب سريراً بارداً، تغسل وجهك بماءٍ بارد، تعلّق على كتفك منشفةً ليستْ بثقل بندقية، تشغّل المسجّل: (ناتالي.. برجي بالسما، ومعلّق بنجمة..)
في رومانيا تقفل الباب على زمن الحروب، لا تعرف بعد إن كنت ستستعير وجهاً أوربياً، رومانيّاً، أم هل ستقدّم نفسك هنا سورياً أم فلسطينياً أم شقفاً متنثرةً من كل هؤلاء، أنصافاً وأرباعاً تائهة؟
خارج بيت الأهل وبيت المنظمة كل البلدان سواء.
هنا تلبس البدلة الإفرنجية، تودّع زمن المطامح، طموحك الآن أن تتفانى في العمل، أن تخطّ نهجاً صارماً لسير العمل في مطعمك، تجد نفسك تُتأتئ بلغة الشارع الرومانيّ مخلوطةً بلكنةٍ فلسطينية، لا حيل لك على حفظ قواعد اللغة فوق مقاعد الدرس، تستعين بمترجمٍ عربيّ، فلسطينيّ أنهى دراسته في جامعات رومانيا. هنا العرب مثلك كثر، ومثلك وجدوا في مطعمك واحةً تُغني عن بلد، يشتغلون عندك وتُعفيهم من التشرّد أو تجارة الكشّة في الأسواق وبين البيوت، وتُطعمهم أكلاً بأسماء وبهاراتٍ عربية، ودخلاً يفسح لعيشٍ أهنأ من سواه. هنا أيضاً مسرحٌ للصياح السياسيّ، لملاحم النقاش السياسيّ العقيمة، لم يسبق لنقاشٍ أن أقنع أحداً بتغيير رأيه بفعل المنطق، صياحٌ سياسيٌّ حتى الصباح، ينتهي بمترسة كل طرفٍ خلف رأيه أشرس مما كان.
هنا أنت محارب قديم يحيا على التبغ والذكريات..
يزورك “أبو عمّار”، تزورك البركة، يزورك “أبو خليل”، يزورك “محمود درويش”. مطعمك منتدى فلسطينيٌّ للقاء والحوار والشعر واللقمة البلديّة. تسهر على راحة بالهم كذلك الحارس (أيام زمان..)، تلتقط لنفسك معهم صوراً تقيم على حيطان مطعمك، بينما العالم في الخارج يسير إلى أمام، تمازح درويش، تطلب منه أن يسمعك شعراً: “سجّل أنا عربي..”، لا يغضب كما مرّةً غضب من أحد عاشقيه، يجيبك: “يا ناصر، نحن في زمن: “أنا يوسف يا أبي، أخوتي لا يحبونني، لا يريدونني بينهم…”
يبادرك “أبو عمّار” بهبةٍ غالية: “هاك جواز سفرٍ روماني، خذه حصرماً في عين الإسرائيلي، لتكن أولى أسفارك به حجّاً إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة..”. يعزّ عليك أن تجيب أنّ كل حجٍّ إليهما باطلٌ ما لن تدخل فلسطين في وضح النهار باسمك العربي وسمرتك العربية..
هنا مطر غزير في الجبال، على الأرض، وفي العيون، وعلى الطريق إلى البيت. مطرٌ يُبهت سُمرتك المحمولة من جينات أهلك الجبليين، والمضمّخة بشمس البحر وسخام الحروب، مطرٌ يُركّد عسل عينيك في غورٍ عميق، هنا زمنٌ يُعفّر رأسك بمسحة شيب، بغابة شيب.
وحدها الندبة على خدّك لا تغور، ووحدها وسامتك المهدورة تزيد مع العمر ولا تنقص.
هنا وحدتك رفيقتك، قد تصحبُ امرأةً لساعةٍ، لساعاتٍ أو بالكثير لليلةٍ كاملة.. ما تجرّأت على تأثيث بيتك بزوجةٍ وأولاد، ولا على النسيان الكامل ولا على حبٍّ جديد. تراوغ، لن تكذب على نفسك، لم تلتقِ بعدُ بمن تنسيكَ حبّاً قديماً.. حدث أن خفق قلبك لبرهةٍ وقمعته عن أكلافٍ لم تتهيّأ لها بعد. يجرفك العمل. ثم، حين يعضّك الفراغ، تناديها:
“طريقي مبسوطٌ وذهني مختلّ، كأني ظلٌّ يسير على الأرض، صوتُك قيدي في طريقي المبسوطٌ.. هاتي صوتك محمولاً على الشوق، على الحرمان، هاتيه أحمله على أكتافي اليابسة..
تعالي أريدكِ أنت ، تعالي فرساً تنادي على ذئبٍ شريد..”
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.