لم أنس ضحكتك. غالباً لا يستطيع الإنسان أن ينسى تلك الأشياء التي تمشي بخفة طائر. لم أكتب لك رسالة واحدة طيلة أشهر، مع أني ذات يوم كتبت سبع رسائل دفعة واحدة ومزقتها دفعة واحدة، كانت مبتذلة وقلقة وفيها خوف غير مألوف، خطي ليس واضحاً، بصراحة خشيت ألّا تفهميهنا كعادتك، هي عن صفاتك وهذا أمر ضروري فكثيراً ما اعتقدت أنني أعرف الكثير عنك، وأدرى منك بك وبخصالك، لكن الندم يعتريني الآن، كان فيها الكثير من الحب.
في الفترة الأخيرة بدأت أؤمن بأشياء غريبة، التقمص مثلاً، ما يقبع في صدري يتجاوز عمره مئات السنين، يستحيل أنه ولد قبل عشرين عاماً فقط، ولكنني أتراجع عن اعتقادي، فالحياة أفظع من أن تعاش مرتين.
الألم بعدٌ أساسي للمتعة، لذلك أحرقت أصابعي وأنا أصنع لكِ القهوة، سأذكر كثيراً في الأيام القادمة أننا شربنا القهوة معاً، ماذا لو سهرنا طيلة الليل؟ هل سيغير ذلك شكل الصباح؟ لا تجيبي، هناك أشياء من العبث أن ننتظرها أو نتساءل عنها، علينا فقط أن نجربها.
علينا أن نضع اضطراباتنا على الواجهة، ونعرضها للبيع، هناك الكثير من الراغبين بالمرض هذه الأيام، كل ما علينا أن يكون فيها ما يكفي من الجنون.
لا أعرف لماذا كتبت لك، في اللحظة الثانية من كل شيء يبدأ الملل، وتبدأ محاولاتنا الفاشلة في الهروب، الكتابة فعل نرجسي، لكنها تورطٌ بالدرجة الأولى، تورطٌ من اجل أن نفضح ذواتنا، وأن نتدارك الخطيئة. تبدأ التعرية في أول الأوراق المجعلكة المرمية في السلة، وفي تلك الرسائل الممزقة، وفي كل حوار داخلي كان يدور، ولم نستطع البوح به، الخوف والخجل من أبشع الخصال البشرية. تلك الأوراق التي تحمل كل خطايانا وبؤسنا، وصراعنا مع الإعتراف، وشجاعتنا في وجه الآخر.
لماذا نكتب في عالم يشبه سجناً يمتد إلى ما لا نهاية، لماذا نكتب ونحن نعرف أننا نجمّل وجه الموت، لماذا نسقط في المجاز والتأويل والإستعارة ونحن نمتلك كل أدوات الوضوح والدقة والبيان، لماذا نستحضر البلاغة إلا لنخفي عطباً في وجودنا، أو سقطة أخلاقية لا نريد الإعتراف بها، أو فجوة اصابت الروح حين افتقدنا جرأة المواجهة.
ربما نكتب لنعطي لهذا الهشيم الواسع معنى، لنزيل عن أكتافنا ثقل الحقيقة، لأننا محاصرون دوماً بالأسئلة التي ترهق عقلنا، دوماً تكون الأسئلة اكثر من الأجوبة،
وعن عجزنا، وهوسنا بتتبع خرائط المعرفة، عن بحثنا الدؤوب عن كهف ما ندفن فيه لغتنا الميتة.
الكتابة: نزف.
وعلينا أن نتمسك بجرحنا جيداً، شريان مذبوح وشغف مستمر بإنتاج الخضاب، والبحث عن المعنى، الكتابة كما الحب، كما الحياة نفسها، تنتهي حيث تبدأ، وتحمل داخلها بذور فنائها، وحده الموت يبقى خارج هذه الدائرة، ولا يخضع لفرضيات المعادلة العمياء التي نعيشها، من هنا بالضبط يستقي العدم قيمته، من الغموض والالتباس، من غياب اللحظة الثانية، موت الأشياء شرط أساسي في قيمة جمالها، نحن لا نعرف شيئاً عن هذا وحتى اليوم ليس بمقدور عقلنا البشري أن يكتشف ما بعد الموت، وهذا بحد ذاته ملهم للخيال، اخترعنا الكثير من الأديان لأجله، ولكن ليس لنا إلا أن نكتب: تعبيراً عن عجزنا امام التاريخ.
في الفترة الأخيرة أصبحت شكاكاً بصورة أقرب إلى اليقين أن من لا يعاني أمراضنا ذاتها، يستحيل أن يفهم ما نحس به، وكيف تنشأ انفعالاتنا وعواطفنا، نحن المرضى، نحن المصابون بعطب في النواقل العصبية حين يتعلق الموضوع بانحناء كتف مثلاً، يشبه ذلك أيضاً الأحياء الذين يتكلمون عن الموت بثقة، هذا فعلٌ خاطئ، عليهم أن يموتوا أولاً.
تبدو حياتنا حساً متمرداً على الإختزال، وشغفاً متغير الدلالات، وبحثاً عن فضاءات اللذة في اكتشاف الآخر.
يمكننا أن نكون معاً بعيداً عن فلسفة الأمور، ودون أن نضع مسميات للأشياء، الأسماء سجون وجدران وقيود وسلاسل، هذا فعل ساذج، يقوم به المحللون النفسيون أحيانا حين يختزلون المشاعر والسلوكيات المعقدة وعواطفنا وردود أفعالنا المركبة إلى عبارات تشخيصية مقولبة وجاهزة وهامدة، وهذا سبب كاف لانتحار المرضى أكثر من مرضهم بحد ذاته.
الإنتحار فعل شجاع، العدميون الذين يفشلون في الإنتحار هم منافقون وفي أحسن الأحوال جبناء. لكن من تنقصهم الشجاعة يجدون دوماً مبرراتهم.
في آخر مكالمة هاتفية بدت أحوالك عادية، خساراتك قليلة إذا ما قارنتها بخسائري التي تكلفني الكثير من الأرق والنيكوتين والكافيئين، كل شيء يمكن أن يتغير، مع الوقت يصبح كل شيء عادياً مثل أحوالك، تختلف الأمور حين نعتادها، في البداية تكون الجدران ضيقة وعفنة، ولونها بشع ثم ما نلبث أن نألفها، ونتكئ عليها، ونشعر بدفئها حين لا نجد شغفاً يروي شبقنا لعناق طويل، أو جسداً يملأ الفراغ بين أضلاعنا، هكذا نروض الذاكرة، أن نبدأ بالإعتياد.
لا أعرف ماذا تفعلين وكيف تقضين وقتك، لكنني أتذكر طريقة مضغك للتفاح، انشغالك بكتاب ما، مع انحناءة العنق ورفع الركبة، حتى تظهر تلك الحفرة السحرية، بين العضلة القترائية الخشائية وعظم الترقوة، ذلك تفصيل ضروري بالنسبة لي على الأقل، أعرف أنك تكرهين تغيير طلاء الأظافر، وأنك تأكلينهم عند التوتر، كلامك أثناء النوم، التوتر الذي يصيبك قبل كل امتحان، خفقة القلب قبل كل قبلة، عينك التي تدمع مع كل شجار، هذه أشياء أجهلها وهذا متعبٌ فعلاً، أن لا أرى الشامة التي نبتت على صدرك في غيابي، وانثناءة ركبتك حين تلبسين الكولون الأسود، أنا بعيد ولا أعرف كيف يحصل كل هذا. صوتك القادم من بعيد يحفر في صدري أخاديداً من الوجع، النكات الساذجة التي تتقنينها تبعث فيّ الضحك وأنا ممتلئ بالصراخ، أتذكر أنك تدخنين بشراهة واستهتار، حتى أنك تمسكين السيجارة من آخرها، تتدلى على ظهر أصابعك وكأنها آيلة للسقوط، السلاميات الأخيرة تتكفل بحملها فقط.
الجمل السابقة لم تكن نوعا من الغزل اللامسبوق، فكل النساء تتشابه عاداتهن حين يتعلق الأمر بالتدخين، لا تميل النساء عادة إلى مسك السيجارة بعنف، أو حبسها بين الأصابع بقوة، مهما كانت الفتاة مدخنة عتيقة وصاحبة كار، حتى لو كانت من أولئك اللاتي يجعلكن الفلتر ويسحقنه ويحركن القدم يميناً ويسارا فوقه، تبقى المسكة هي الفارق، نحن الرجال نعتصر السيجارة ونسحب النيكوتين من رئتيها مثل ممارسة الجنس بعنف، نضغط عليها بقسوة، مثلما تصنع الأمهات مربى المشمش.
ليس حباً، إنما هي تلك الأشياء التي أجهلها، وتلك المهارة التي خسرتها في محاربة ماضي الاشياء البعيدة، هي استنزاف التجربة ومحاولة يائسة لقتل المحال، الصبر حرفة الصيادين، والبحارة لا يثقون بأهل اليابسة، يصعب وصف الأشياء حين نفقدها لكنه يصبح أصدق.
سأغير عاداتي قريباً، مثلما تهجر الخزامى أطراف الصحراء حين يزحف الإسمنت، مثل نهرٍ مصاب بالإكتئاب، يغير مجراه كل يوم مرتين.
كل ما يدور حولي يثير قلقي، وافزع حين أفكر بأن الأشياء التي كنا نفعلها سوية، سأقوم بها منذ الآن وحدي، وربما إلى الأبد، لكن هذا سهل نوعا ما، إذا سلمنا أن الحياة تجبرنا أحيانا على مواجهة الأمور الشاقة، وأنها تفرض تصالحاً صعباً مع أفكار متعارضة تماماً مع ذواتنا، وأن الحب كما الحياة، أكثر غرابة وتعقيدا من الإعتقاد الذي نشأنا عليه.
يمكنني أن أفهم لماذا غادرت، ولم لا تستطيعين العودة، لكن ما لا يمكنني فهمه ولا أتخيل أنه بمقدورك شرحه، ولا يمكن أن أغفره لك أنك تركت الكثير من الأشياء التي تذكرني بك، وفعلا لا أعرف حتى اللحظة، لماذا لا تركبين أول قطار يتجه نحو بيتي، ستجدين الباب مفتوحاً، والطبخة على النار، أعرف ماذا تحبين/ بلا هبل.
أتوقع أنك تكذبين دوماً، وهذا ليس عيباً طالما أن البشر اخترعوا هذا المفهوم، وتعاملوا معه كعرفٍ سائد، لا أعرف من بدأ به، واستعمله لأول مرة كآلية للدفاع عن النفس، أو أداة من أدوات البقاء، ولكن يبقى الكذب لأجل الكذب طفرة دخلت على استعمال هذه الأداة وحالة متقدمة من البشاعة في مقاييس الجمال البشرية.
الصدق يبدو عاجزاً امام رغباتنا ودوافعنا، ينجح الكذب في كثير من المواضع في خلق فرص كما لو انها الأفضل، لكننا نسقط في حفرة أخلاقية، يصعب علينا انتشال ذواتنا منها.
ربما كان حاجة أساسية ولم تكن اللغة سوى وسيلة تدور في سياقها خيوط الكذب، أي أن لغتنا كانت بمثابة الكادر ليكمل المشهد حيث الكذب هو سيد الحبكة، وتبقى الحقيقة لغة الحواس، وكلما تطورت لغتنا ابتدعنا أساليب أكثر ذكاء لنغير وجه الحكاية.
المشكلة أنك تفهمين الأشياء بطريقة غريبة، دوما علي أن أوضح لك أن الحياة معقدة، وعسيرة على الفهم، ولكننا في نفس الوقت يمكننا أن نتوقف عن الكسل والإستسلام، هذا أهم وأجدى من فهم الحياة.
نحارب حاجاتنا باللامبالاة، شوقنا لتتبع الحواس، رائحة اجسادنا، تشابك أيدينا، صدام الأسنان اثناء قبلة غير ناجحة، إلا أننا نستخدمه في مكان خاطئ تماماً، ونوظفه في تغذية حذر عميق تجاه البوح بالعواطف. الحب هو آخر مكان علينا أن نحذر فيه، الحذر صانع التعاسة.
من العبث أن نتظاهر باللامبالاة تجاه أشياء لا يمكن لنا تجاهلها، ضعفاء حتى في محاربة وعينا، هذا اللااكتراث الكاذب، الواهم والمفتعل يفضح نكراننا لأصالتنا، وكأننا أوراق سرخس تكتب الشعر.
العالم يفرض نفسه بأسلوب واضح تماماً، ولكننا نركّب أيامنا بما يجعل للحزن قيمة أكبر ،
علينا أن نموت بشكل مبكر، وهذا دافع قوي، لخلق الطاقة والفن والإبداع، للإنتاج للسهر وللصخب، للعمل للحب وللحياة أيضاً، حتمية الموت، تفرض بالضرورة أن علينا أن نفعل شيئا ما قبل أوانه، أعمارنا قصيرة، وهي سلسلة من مواقف الحزن والقهر والكآبة والملل، تتخللها لحظات من السعادة والمتعة، والتي عادة ما تكون نادرة وعابرة، العجز هو التوقف، هو الإستكانة لظرف قاس، أو لمسار فرضه ما يسمى القدر، يكمن ضعفنا بالدرجة الأولى في الإيمان بالقدر والتسليم بأن كل شيء جاهز ومعد مسبقاً، أتخيل أن خياراتنا يمكن أن تصنع فارقاً مهماً، وفيها تكمن قوتنا.
الزمن كائنٌ غريب، نتكلم بثقة عن فهمنا له، واننا نقدر اهميته، ولكنه يعلمنا دوماً أننا الكائنات الأكثر بلاهة في التعامل معه.
المكان إعادة ترتيب هياكلنا، تعريفنا للمكان واهم، نحن لا نشبه إلا أسماكاً غبية تدور في حوض من زجاج، مهما امتلكنا من أدوات النفي والتعريف، المسافة انكسار التفاصيل، لعنة الإنفجار الكوني حين جعل كوكبنا ممتداً إلى هذا الحد.
دوماً أطالبك بتخفيف أسئلتك التي تدور عن فحوى الوجود وقيمة الحياة، في سعينا نحو الكمال، علينا أن نستمتع بالنقائص، كأن أمسد لك طبقات الجلد الميتة في اصابع قدميك، آخر همي بصراحة قيمة الحياة، ما يهمني هو قلبي والموت السريري الذي يعتريه منذ اشهر، قلبي أصبح مقبرة واسعة، وكل يوم تستقبل موتاها الجدد، احيانا دون مراسم تأبين أو حتى جنازة، سورة ياسين، إكليل من الآس، والقليل من الحزن المفتعل وكفى، رئتيّ بحر هائج تسبح فيهما أجساد الغرقى وكتلٌ ضخمةٌ من النيكوتين، معدتي تمضغ الجثث بسرعة ذرات السكر حين تذوب في كأس الشاي، جسدي أصبح صحراء ممتدة، يتفتّح الصبار في جلدها كل صباح، والكبد بئرٌ جاف.
سأحاول في السطور التالية ألا أقول شيئاً، أن أترك الباب مفتوحاً لكِ، أدرك أن الأبواب المغلقة تريحك أكثر، لكني لا أستطيع النوم ، أسمع وقع أقدامك على الخشب، صورك تتكدس في أحلامي مثل صناديق العنب في مواسم القطاف، أحياناً يدخل بيتي أشخاص لا أعرفهم، أسهر معهم، نحكي قصصاً غريبة، بلغات مختلفة، نلعب الطرنيب، نشرب العرق، نحكي كثيراً كثيراً عن الحب والأبواب المغلقة، لا أعرفهم جيداً، هم مجانين حتماً، مرضى نفسيون، مشردون أو ربما عاشقون، ومثلي ينتظرون خطوات بعيدة.
دوماً كنت أشرح لك أن الحياة معك سهلة، وممتعة، ومليئة بالنبض، أنا الذي يضع قلبه كل يوم على طاولة تشريح، ويتفحص أجزاءه الميتة، ويحاول ترقيع كل الثقوب التي أحدثها الزمن في شغافه.
هل فكرتِ يوماً في الأحلام المرهقة، تلك التي نتعرّق بعدها، لماذا تتكرر مشاهد الإمتحانات الورقية، الخوف من طلق ناري، السقوط من علو شاهق، محاولة الإختباء حين نمشي عراة في شارع مأهول؟
هل هو ضعفنا، وفشلنا، وهروبنا، من فرط استحقاق الهزيمة، من اعتناقنا لحقائق مطلقة كلّفتنا التخلي عن اللذة وخسارة النشوة الصاخبة.
لم أشتر لك هدية، ليس لأنه من المستحسن أن نتوقف عن خلق الذكريات، بل لأن طائر اللقلق الذي استولى على عش الشجرة الخلفية قد كسرت رجله. أعرف أن هذا سبب لامنطقي، لكنه يشبه السخافات التي تكلمتِ عنها قبل رحيلك، أنا فقط أحاول أن أقول شيئا مشابهاً.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.