الصفحة الرئيسية / نصوص / نثريات / إلى حيث كانت حمص

إلى حيث كانت حمص

اليوم هو عيد ميلادي السبعون، كان نظري يسرح من نافذة غرفتي وأنا أشاهد المارة و هم يتحركون كالأشباح، هنا دمشق لكنها ليست دمشق التي أحببت و أنا صبية، هذه ليست دمشق التي خرجت في شوارعها ثائرة، هذه دمشق المهزومة الكسيرة التي كسرها الطاغية و لم تقم من جديد، لا أرى فيها إلا الأسوار و القيود و الكثير الكثير من الزنازين.

منذ أن هزمت ثورة الكرامة، سرقت الروح من هذه المدينة و أصبحت جثة عفنة لا نتطلع فيها إلى المزيد من العفن و الدود. مرت خمس و أربعون سنة منذ أن هزمت الثورة التي ظننت أنها سوف تغير العالم ، لا أعرف كيف استطاع الناس العودة إلى قطار العبيد و كأنهم لم يكسروا الخوف يوماً، و كيف استطعت أنا أن أمضي في حياتي و كأن شيء لم يكن، نسيت أصدقائي الذين غيبوا وراء السجون، نسيت الشهداء و الدماء المسفوكة، أو تناسيت .. يا للخجل .. يا للعار ..

تناهى إلى سمعي طرقات خفيفة على باب غرفتي، فتح الباب لتدخل صغرى حفيداتي سماء ، قطعت حبل الذكريات الذي كان يلتف حول رقبتي و سمحت لنفسي أن أُشبع عيني من سماء ، كانت عينها الزرقاوتين تشعان بذكاء يتجاوز سنوات عمرها التسع و كانت لا تزال بثياب المدرسة و في يدها كتاب مدرسي ، سماها والدها سماء بسبب عيناها الزرقاوتين و لأنه كما أراد أن تكون لها الدنيا واسعة كما السماء بعد أن ضاقت علينا أرض وطننا. ، أشرت إليها أن تأتي لتجلس في حضني، قبلتها و أخذت أمشط لها شعرها البني و اسألها عن يومها في المدرسة، قفزت فجأة من حضني و وقفت أمامي و قالت: جدتي لدي سؤال هام للغاية ..

لم أستطع أن أخفي دهشتي من تلك اللهجة الجدية التي نطقت بها جملتها الأخيرة، قلت إسألي ما شئت يا حبيبتي..
قالت: سأفعل و لكن عليك أن تعديني بأن تعطيني الإجابة، و لا تصمتي أو تنهريني كما فعل الآخرون ..
قلت: من نهرك يا حبيبتي ؟
قالت: كل من سألتهم هذا السؤال .. بابا .. ماما .. المعلمة ..
قلت: و ما هو سؤالك يا عزيزتي ؟
قالت: ما هي حمص؟
نظرت إليها غير مصدقة ، هذه كلمة التي محيت من ذاكرتنا و حرم علينا حتى التلفظ بها منذ أن هزمت الثورة، هذه الكلمة التي تصرخ من قلب الصمت الآن ألماً و غضباً، سألتها : أين سمعت هذه الكلمة؟!
قلت: لم أسمعها بل قرأتها في كتاب قديم من كتب جدي.. جدتي قولي لي ما هي حمص؟
تنهدت مستسلمة وقررت أن أخبرها : حمص هي مدينة يا عزيزتي ..
قالت : مدينة ؟! في أي بلد؟
قلت: حمص كانت مدينة سورية ..
نظرت إلي بتعجب و قالت : مدينة سورية ! كيف لا يوجد على الخريطة مدينة إسمها حمص… إنظري… و فتحت لي كتابها المدرسي على صفحة عليها خارطة سورية و قالت : إنظري لا يوجد حمص على الخارطة ..
إرتسمت على شفتي إبتسامة ميتة ووضعت يدي على الخارطة إلى حيث كانت حمص … و قلت هنا كانت هناك مدينة تسمى بحمص..
قالت : و لماذا لم يعد هناك حمص ؟
قلت: لأانهم أحرقوها حتى غدت رماداً
قالت و قد بدى الجزع على وجهها : من أحرقها يا جدتي؟
قلت: بشر لا يخافون الله
قالت: و ماذا حدث لأهلها؟
قلت: أهلها في ذمة الله
قالت: قتلوا ! و أين كانتم أنتم ؟!
قلت: لم يكن بوسعنا فعل شيء …
قالت: جدتي لماذا أحرقوا حمص و قتلوا أهلها؟
قلت: أحرقوها لأن أهلها أرادوا الحرية ..
قالت: و ما هي الحرية ؟
هنا لم أعرف بماذا أجيبها ، و كيف أشرح لها كلمة أعدمت قبل أكثر من أربعين سنة ، عادت و سألتني : ما هي الحرية؟ كانت نظراتها المتسائلة تصيبني كسهام من نار.. و سألتني من جديد : جدتي ما هي الحرية ؟ أهي ذنب ؟ جريمة ؟
هنا شعرت برعدة تسري في عروقي ، نظرت إلى عيناها الزرقاوتين و قلت : الحرية ليست ذنب و لا جريمة .. الحرية فضيلة ..وهي شيء جميل .. جميل كعينيك الزرقاوتين و واسع وسع السماء…
قالت: جدتي لم أفهم ما هي الحرية ؟
قلت: الحرية هي حمص .. و قد تركنها تقتل يوم تركنا حمص تموت ..

Syrian Therdiary

عن دحنون

دحنون
منصة تشاركية تعنى بالكتابة والفنون البصرية والناس.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.