“يا وطنية التمّوا التمّوا.. الشعب السوري ضحّى بدمو..” كان هذا بضع ما هتفت به في إحدى مظاهرات قطنا بريف دمشق. كنت وصديقتي مي، وحدنا بين مئات الرجال المتظاهرين. يومذاك حملونا على الأكتاف، وجاهدوا لحمايتنا حين هجم الشبّيحة والأمن علينا، كنا محاطتين بعصي مربوطة بعضها ببعض كسور منيع، وأنا كنت أهتف من على أكتاف الرجال بكل عزيمتي!أنا فنانة تشكيلية في الثلاثينيات من عمري، ليس لاسمي أهمية تذكر هنا، المهم في الحدث أني لم أكن سابقاً آبهة لكل الرفض وقلة الاحترام الذي كنت ألمسه كلما زرت حارتي “الميدان” بدمشق، فلم يكن الحجاب الذي خلعته منذ سنوات يعني لي الشيء الكثير كما كان يعني لأهل حارتي! أما بالنسبة لوالدي، ميداني الأصل، فلم يكن الإحراج الذي سببته له كافياً لقطع علاقته بي، بقينا صديقين حميمين، فالدين المعاملة كما كان يرى. هذا الرجل، الذي طالما عمل سائقاً لسيارة هيونداي، ولم يكن لديه صلة تذكر لا بالفن ولا بالثقافة، علّمني ماذا تعني الحرية حقيقة.
“بدنا دولة مدنية.. إسلام ومسيحية” أكملت هتافي بصوت مبحوح أشعل المتظاهرين أكثر، وهنا كنا في مظاهرة حارتي الأساسية “الميدان”. وعلى الرغم من أني كنت سافرة في حارتي المحافظة إلا أن هذا لم يمنع الشباب المتظاهر من حمايتي ورفيقاتي طيلة المظاهرة..! إذاً وعلى الرغم من كل الرفض الذي كنت ألمسه من أبناء حارتي إلا أنني كنت من أوائل البنات اللواتي نزلن إلى المظاهرات هناك. ولوهلة بدا لي أن كل ما سبق تبدّد، وحملني شباب حارتي على الأكتاف، نظراتهم المتجهمة تبدلت إلى نظرات إعجاب، وراحت أصواتهم تغدو أقوى وأجمل وهي تردّ الهتافات ورائي: “ما منحبك ما منحبك.. ارحل عنا إنت وحزبك”.. أحسست بشيء غريب وقتها، شيء يشبه الفخر والشجاعة، شيء يشبه الحب!كان من المفترض ألا يكون شعوراً غريباً عني، فقد كنت فنانة معروفة، ولوحاتي تباع بمئات آلاف الليرات، كما سبق ونلت جائزة الفنانين التشكيليين، وربما هذا ما جعلني أكتب في دفتر مذكراتي يوماً أنني أحب بشار الأسد، وأنه رجل جيد.
بعد شهور الثورة وبعد أن رحت أرى الموت بعيني، والقنابل المتشظّية ترمى علينا في المظاهرات التي كانت سلمية برمتها، صرت أحسّ بنفسي خائنة. وعلى الرغم من أني مزّقت الدفتر ذاك بعد أن كتبت على آخر ورقة منه: أنا خائنة، إلا أن ثمة عقدة ذنب تجاه شعبي مازالت في داخلي عصية على التبدد.. حينما مرت تلك المسيرة المؤيدة وفيها من يهتف: “يالله حلّك حلّك يقعد بشار محلك” “ويا متظاهر يا مدسوس على راسك بدنا ندوس..”. وكان ثمة أطفال قلعت أظافرهم في درعا وشباب قتلوا أيضاً، شعرت بعقدة الذنب تلك تخنقني.أنا لم أكن أعرف شيئاً عن شعبي ولا عن وطني، وكأني كنت أحيا في برج عاجي بعيد.. لم أكن أعرف شيئاً عن جرائم الأمن وفروع التعذيب، عرفت عنها بعد الثورة.. المعرفة هي أول الحجب التي تكشفت لي حين اختبرت الثورة.لم أكن أعرف شيئاً عن قانون الطوارئ أو الأحكام العرفية التي صاروا يتحدثون عنها، لم أكن أعرف شيئاً عن قهر شعبي ولاعن الحياة السياسية وجرائم النظام. لم أكن أعرف شيئاً، الشعب السوري شعب طيب..
في جمعة أزادي طلعت مع أكثر من ألف رجل في جديدة عرطوز بريف دمشق، وكان شباب المنطقة دعوني مع صديقاتي من كل الطوائف للخروج في المظاهرة، ولتخرج نساؤهن أيضاً. حملوني وأنا سافرة على الأكتاف، وحينما هجم الأمن علينا كانوا يريدونني أنا بالذات. واستنفرت بيوت الجديدة لتحميني، وخاطر شبابها بحياتهم كي لا يتم اعتقالي. في النهاية ألبسني أبو بلال خماراً أسود، كذلك الذي تلبسه امرأته، وحملني بسيارته خارج المنطقة.. بعد الثورة ثمة جدران عازلة كانت بيني وبين شعبي تهدّمت. صرت أكتشفهم، أستمتع بمعرفة ما لم أعرفه عنهم. صرت أقتنع يوماً إثر يوم أن إبداعي كان منفصلاً تماماً عن واقعي، أشبه بمن يبدع وعيناه إلى السماء الصافية فيما البشر يحتضرون تحت قدميه.كنت أكره الشارع، أتجنب اللقاء مع أي شاب أو فتاة لا ينتمون إلى وسطي، أما اليوم فقد ولدت مع الثورة من جديد، كنت أميّة والآن بدأت أتعلم.. لقد تغيرت رؤيتي للعالم!حتى أمي صرت أراها امرأة مختلفة.. دخلت يوماً إليها وكانت تكلم أخي، وهو عسكري مجند أخذوه إلى جسر الشغور ومن ثم على جبل الزاوية.. قالت له:- يا حبيب أمك كون مقتول ولا تكون قاتل.لا أعرف ما الذي يجعل أماً تقول لابنها هذا، ولا أعرف إن كانت كل الأمهات السوريات مثل أمي، لكني كنت اكتشفها من جديد، تلك المرأة التي مرّت سنوات لم أبادلها جملة كاملة. حتى أني دخلت منذ مدة إليها وهممت بأن أخبرها بالذي حدث صباحاً لكنها كانت تبكي، فخجلت..
ذاك الصباح رنّ هاتفي، وسألني صوت نسائي شامت: كم عمري؟. وحين أخبرتها قالت لي:- ديري بالك على الباقي من عمرك برصاصة طايشة أو سكين بالغلط. كنت أريد أن أخبر أمي عن كثير من التهديدات ومحاولات الخطف والقتل التي أتعرض لها، ولكني لم أستطع. واليوم وأنا خارج البلاد أستطيع الحديث إليها بكل ذلك. اليوم أفكر بأني ولدت مع الثورة، ولدت من جديد.. ولئن كانت مسارات الثورة قد اختلفت قليلاً، وابتعدت عني وعن أمثالي في بعض المناطق، ولئن كانت نهاياتها تبدو مجهولة لي في أحيان، إلا أنها جعلتني أتبدل، جعلتني أكتشف شعبي ونفسي، أعرف وأتحرر من عبء الجهل والخوف.. هذه الثورة بدّلتني كما بدلت كل سوري.
هامش: (ه.ع) اضطرت للسفر إلى خارج سوريا بعد لقائنا بمدة قصيرة، ولكني على يقين بأنها ستعود، كما كل من يشبهها، كي يساهموا في بناء سوريا الجديدة كما يرونها وكما تشبههم: حرة ومتعددة.
رائعة يا روزا
موضوع جميل لكن فيه كثير من أفكار موضوع الكاتبة لمى محمد المنشور في الحوار المتمدن
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=296462