كنت ألهو في فناء بيتنا الصغير و أعفّر أختي الصغرى بالتّراب مستغلّةً غياب والديّ اللذين اصطحبا أخوتي الصغار إلى بيروت احتفالاً بنهاية العام الدراسي، قلبنا حجارة السّور المتهدّمة و أعدنا بناءها عشرات المرّات وقتها كانت ترتدي تلك الكنزة الصفراء الشهيرة التي ورثتها أنا من معسكر الطلائع في المرحلة الابتدائية، دخلنا منهكتين تناولنا الطعام بلا رغبة و جالسنا من تبقّى في البلاد من العائلة. شيءٌ ما بدأ يتسلل إلى الشاشة الصغيرة، فقط قطعوا المسلسل ووضعوا القرآن إذاً فقد مات أحدهم. مما اضطر مروان شيخو شخصياً أن يخرج مستحلباً الدموع متهدّج الصوت مضطرب النظرة من الأوراق التي بين يديه إلى الكاميرا ثمّ إلى كادر التصوير، ذكر التاريخ بشقيه الهجري و الميلادي و ناح على فقيد الأمة القائد الذي قلّ مثيله و الحكيم الذي قل نظيره_على حد تعبيره_ لقد غاب القائد..!! هوى الكوكب الذي أنار سماء سوريا…
“مات حافظ الأسد.. مات حافظ الأسد” قفزت في مكاني وسط ذهول أخواتي اللاتي تعلقت عيونهن بالشاشة الغير ملوّنة متسائلات كيف ذلك..! كان حدثاً جديداً بالنسبة لي أن يموت هذا الكائن الغريب الذي كنت أظنه خيالياً و غير موجود إلا في قصرٍ كتلك التي تملأ حكايات المكتبة الخضراء. لكنّه الآن كغيره موضوع في صندوق خشبي يناسب حجمه و ملفوف بالعلم الوطني و لكن الفرق أنه محاط بملايين يجوحون و ينوحون و يلطمون فظننت أنه لأنه الرئيس و القائد المفدّى كان لا بدّ من استحضار أكبر عدد من النواحات، حتى و لو اضطروا لجعل ثلثي الشعب يعمل نوّاحة في تلك الساعة بالذات.
لفتني صاحب الوجه الئيم الذي يتأبط ذراع من فُتحت طاقة القدر في وجهه و أضحى برتبة فريق في غضون أيام ثم رئيساً للبلاد، قيل لي وقتها أنه صهر العائلة و من يومها أكره اسمه الممزوج من الحقد والسطوة.
راحت الصرخة تخبو في داخلي جلست بهدوءٍ و تساءلت ما الآتي.. وأين سنذهب..؟ و من سيكون التالي الذي سنهتف له … رمز الأمة العربية، و بالروح بالدم نفديك.. ظانّة أنها صفةً تلازم القائد كائناً من كان ويتعيّن على أي شعب هتافها ولا تختلف إلا باختلاف اللغة، سررت أننا ربما سنتخلص من تلك المقتطفات المملة العصية على الحفظ من كتاب اسكندر لوقا كذلك قال الأسد!! لكننا لم نتخلّص.
تعالت الأصوات، نظرت من النافذة المطلة على السور كانت الحجارة التي أمضينا لعبنا في الصباح الباكر بها قد سوّيت بالأرض فالرجال و النساء و الأطفال يركضون متدافعين لماذا؟؟ لا أعرف؟؟ ولا زلت إلى هذه اللحظة أجهل السبب!!
اكتظت الأفران و محالّ المواد الغذائية في المدينة، و كأننا على أبواب شتاءٍ عنيف، رنّ جرس الهاتف الأرضي و جاء صوت أمي الحزين من الطرف الآخر: سنعود غداً فقد أعلنوا الحداد العام. في لبنان.!
وقتها فقط قلت كم أكرهك أيها القائد كم أكرهك.. فقد حرمتنا فرصة من الحرية لن ننالها بوجود والديّ..!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.