الصفحة الرئيسية / تجريب / دير الزور – لا يليق بطيب أهلك هذا النكران

دير الزور – لا يليق بطيب أهلك هذا النكران

نجاة عبد الصمد

 

ما زرت مدينة في سورية وأحببتها كما أحببت دير الزور! ألتمس العذر من مدن سورية الجميلة كلها؛ فلكل منها شامةٌ ـ أو شاماتٌ  – تزهو بها…. إلاّ دير الزور الصامتة !حين حللنا ضيوفا عليها منذ اعوام قليلة فاجأنا الدكتور خلف الذي افتتح ندوتنا الطبيّة بقوله:أهلا بكم بين أهلكم ، لكي تروا بأعينكم أننا لم نعد نسكن الخيام ، وأننا كافحنا كي نتعلم ونعلّم أبناءنا ونبني بيوتنا العصرية! قضينا بينهم أياما ونحن نتساءل لماذا لا يتباهون بما أوتوا من عقول ومن جمال ومن خيرات؟!

جمال أهل الدير صادم ! كيف أمكنهم أن يجمعوا بين أصالة البدو ورقة الحضر؟! بين طيبة الريف و ديناميكية المدينة؟! كانوا لنا أدلاّء متطوعين ونحن نتجول في شارع السته إلا ربع وشارع التكايا والريجي … والسوق المسقوف وسوق الصوف… جالوا بنا في أحياء الأغنياء وفي أحياء الفقراء… لم يخفوا عنّا مختلف أوجه المدينة على ضفاف الفرات… لنصل أخيرا إلى جسرها الذي لن تبلى العبارة المكرورة عنه مهما استُعيرت “تعلق قلبي فوق جسرها المعلّق….” و تعلق قلبي بأهلها الذين ودّعونا يومها محمّلين بدهشتنا من شفافية أرواحهم، وبتذكارات من المدينة أردنا شراءها ولم يسمحوا لأحدنا بدفع ثمنها، وبهداياهم من خيرات أرضهم ومواشيهم، وبحرقة دعوتهم ـ أن : عودوا لزيارتنا!

اتصلت بصديقي الطبيب من دير الزور اليوم لأسأله كيف الحال ! ؟ وجاءني صوته كأنه من الجحيم آت: أتذكرين الجسر المعلق؟! تعالي لتري النار تتعمشق اليوم على خضرة زناره! حتى رحمة الله لن تستطيع اختراق عامود النار فوق المدينة وريفها!

وأين صرتم الآن؟! ـ أسأله…

هشل أهلنا وتبعثروا في الجهات الخمس ـ  يقول…. صعودا إلى الله شهداء بلا مراسم… وشرقا إلى رحمة الصحراء…وغربا شمالا على هدي الفرات صوب الرقة … و شمالا على الطريق الطويل إلى الحسكة … و جنوبا عبر الدرب الوعر إلى الشام … لم يعرفوا أيّ درب سيسلكون فيما النار تلفّهم من كل صوب… كلٌّ حيث أمكنه أن يرى مزقة من درب لم تُخفِ  معالمَه الحرائق… حتى المشافي احترقت وانصهر إسفلت الطرقات… هشلوا بأرواحهم العريانة… لم يغرفوا قبل الرحيل شربة ماء من الفرات، ولم يحملوا معهم زوّادة … ما أمكنهم أن يسلطوا الترعة على زرعٍ سيجف … أو يقطفوا من نخلهم تمرةً… أو يحلبوا من شياههم ضرعاً…. ولم يعثروا على عكازات تسند عاجزيهم … ولا اصطحبوا كتب الدراسة لأبناء بقي لهم مادة أو اثنتين ويكملون امتحانات الشهادة…

ولم يلمّوا يداً انبترت… أو يضمدوا جرحاً سال أو جلداً انقلع…
وغاب الصوت ـ صوته………….

يا مدينة الخير يا مدينة النشامى :لا يليق بطيب أهلك هذا النكران!

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

تعليق واحد

  1. اعتدنا المرونة في حياتنا … رغم قساوتنا ..

    وهذا لا يعني نكران مدينة أساساً تعبت من نظام عبث بها كما يشاء …

    سيعودون ليبنوا ديراً … أفضل بكثير من قبل ..

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.