الصفحة الرئيسية / نصوص / شعر / يا أمي ثقيلا كان الرشاش.

يا أمي ثقيلا كان الرشاش.

.

.

.

.

نجاة عبد الصمد

.

ثقيلا كان هذا الرشّاش على كتفي يا أمي…

لا كما النادبات في المآتم كانت؛

كانت الأم في احتضار…

لا كفُها الرخوةُ تنهض تلطم وجناتها اليابسه؛

ولا الصوت يرجرج حنجرتها المدكوكة بالصوّان؛

ولا الصبرُ يدانيها ؛

ولا اللهُ قريب…

“خذوني إليه حيث كان ،ألملم دمه الذي انساح هناك..

خذوني لأسال :لماذا قتلوه!

خذوني إليه…

أو أعيدوا الزمان لأردفه خلفي و افدي بصدري ظهرَه الذي خردقَه الرصاص…

غدا سيصلني نعشه البردان:

خلّوني أشمّه …اغسله …. وأكفنه،

كما كفّنت يداي أخاه الأكبر الذي دهسته قبل شهرين سيارة هوجاء…

خلّوني ألعن السنين التي تعاطيت فيها حبوب منع الحمل فلم ألد عشرين ولداً…

جازيتني يا ربّ….

وخذلتني ، ولم تحفظ سوى صغيري الثالث المعاق!

ولم أكن قد ربّيتهم ثلاثتهم للغربان…

ربّيتهم (شبرا بنذر)…

وهذا الأوسط ـ شهيد اليوم ـ لم يكبر إلاّ بحفنات الدواء …

ولدته بقصبات منخورة…

سمّم الربو نموّه..

سبقه سعاله في كل خطوة من خطاه الواهية…

وأرجَعه كل يوم من المدرسة أزرق باكيا ليحرق قلبي…

وأمّلني الأطباء أنّ  ربوه سيعفيه من الخدمة العسكرية…

ويوم وفيت جميع نذوري حين انسلّ منه الربو على مشارف الشباب:

أتى العسكر و اقتادوه إلى( خدمة العلم)…

كان هذا منذ شهور ثلاثة…

رايناه خلالها في زيارته اليتيمة في الشهر الماضي …

وأخبرنا أنه نُقل منذ أسبوع خدمته الأولى إلى حاجز في حمص:

سلّموني رشّاشاً…قال لي.

وقالوا :إضرب يا وحش!

وأنا ـ قال لي ـ لا أعرف بعد كيف اصير وحشاً !

ثقيلا كان هذا الرشاش على كتفي ياإمي…قال لي ….

كيف لي أن أحمله…قال لي ؛

أنا الذي لم تتركيني أحمل إلى البيت ربطة خبز!!

ولم أحمل كتابا و لم أحمل معولا …

ولم أحمل حتى جسدي…

ولم تحملني حتى رئتاي…

جئتُ إلى الدنيا نكرَةً مريضة…

وأخرج منها اليوم صفحةً بيضاء…

لم أقل لك : سامحيني…

أروح و في حلقي اعترافٌ وحيد :

لم أصر وحشاً؛

ولم يبصق رشاشي في وجه أحد!


عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.