اسماعيل الرفاعي
١١ تشرين الأول ٢٠١١
١٠-
كارمينا بورانا.. كارل أورف.. الشعراء الجوّالون، قصائد الحب والخمرة والنساء.. الموت والحياة.. كارمينا بورانا.. الشعر والموسيقى.. ;كيف تتلقى هذه الجرعة دفعة واحدة أيها الولد، دون أن تستعين بالفرات؟ دون أن يهدر بداخلك؟ كارمينا بورانا في حصة الاجتماع، في الصف العاشر، في ثانوية عبد المنعم رياض، الطالب النجيب يناول المدرس الحالم أسطوانة قديمة، يصدح الكورس في القاعة، تتباعد الجدران، تتسع السبورة، تتلوّن، تنفرد المغنية بنشيد الجسد.. تتقدم موجة الكمنجات، تنحسر الرمال، تئن ضلوع التشيللو.. ويقرع أحد ما جرس المدرسة. يصمت كارل أورف يندفع الطلبة إلى الباحة.. يهدر المذياع: حماة الديار عليكم سلام.. أبت أن تذل النفوس الكرام.
في الميادين.. في ثانوية عبد المنعم رياض.. في الصف العاشر.. في غرفة موجّه الإعدادي، كان عنصر الأمن يحقق معي بحنكة مفرطة، وهو يثني على لباقتي، وعلى ماسمعه من أخبار ترفع الرأس عن شطارتي.. في أي تنظيم أنت يا بني؟.. من هم رفاقك؟.. عن ماذا تتحدثون؟.. أنظر في عيون الموجّه، يشيح بوجهه، أنظر في عيون عنصر الأمن، أرى فراغاً مفزعاً.. تضيق الغرفة، يضيق النفس.. أُفلت من أسئلته المتلاحقة بإجابات مقتضبة، أحدثه عن حصص الرسم، ولوحات الأزرق والأحمر، يقطب حاجبيه.. يسكن الفرات برهة، أبتلع ريقي، أصمت، يقرع أحد ما جرس المدرسة، أصفق الباب ورائي، وأقفز إلى الباحة.. يهدر المذياع: حماة الديار عليكم سلام.. أبت أن تذل الفنوس الكرام
كارمينا بورنا. كارل أورف.. أغاني الحب والحياة.. تضمّ المغنية السوداء عينيها، يرتعش ثوبها الأحمر الشفيف، تترنم بلازمة الحبّ، تذوب الموسيقى في العروق، تصدح جوقة المغنين. ينفرد عازف كمنجة أعمى، يسترشد بعصا المايسترو المضيئة، تهدر الجموع.. كيف تحتمل هذه الجرعة دفعة واحدة أيها الرجل الغريب، دون أن تستعين بالفرات؟ دون أن يهدر بداخلك؟ كارمينا بورانا.. هنا في سعير الغربة، في الرابعة والأربعين، في اشتداد الشيب، يهبط الرجل أدراج عمره، يستريح برهة على مقاعد الدراسة، يناول أستاذه الحالم أسطوانة قديمة.. تضيق القاعة، تشحب السبورة.. تتقصف النوافذ، تتشظى الروح.. يندلع النشيد: حماة الديار عليكم سلام.. أبت أن تذل النفوس الكرام.
(من دفتر الطفل)
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.