الصفحة الرئيسية / تجريب / من النافذة الخلفية للتغريبة السورية….

من النافذة الخلفية للتغريبة السورية….

.

.

.

نجاة عبد الصمد 

.

تغريبة البدوي، راعي الغنم الني هُجِّر مرتين؛ وأنجز نزوحه الثالث إلى العراء تحت سماء “تل جيدة” غربي مدينة السويداء….

جاءني إلى العيادة يرافق زوجته المريضة…. لكنه اليوم صامت على غير عادته…. يراقبني كيف أعاينها…. يستمع إلى التوصيات بإذعان…. يستلم الوصفة ساهياً، ولا يعقّب حتى بسؤال.

فقط عيناه كانتا حمراوين!

صمتتُ أنا ايضا… تحديقي فيه سأله: ما بك؟!

تسمّر طويلا قبل ان يجيب:

ودّي أبكي….ودّي أبكي…تسمحينلي؟؟؟

(أعرفه وزوجته منذ سنين، يأتيان من قريتهما كل حين ككل اهالي القرى الشرقية في درعا: وجهتهم الدائمة صوب السويداء لتسويق منتجاتهم وشراء أغراضهم ومراجعة اطبائهم؛ تماما كما تتوجّه قرى السويداء الغربية إلى درعا للأسباب ذاتها…. هكذا نحن نعيش منذ وعينا….)

ودّي أبكي…. ولم ينتظر سماحي… كان قد بدأ يبكي ويحكي…

اللي صار اليوم خلاني إرجع خمسين سنه لورا… عللي إفهم… عللي أصدّق شو صار…

تعرفين.. نحن بدو: إخوة وأبناء عمومة من ضيعة جنب بصرى الشام…

أجدادنا سكنوا الخيام ، كان عطرنا زفير قطعاننا… ودواؤنا الشيح والنعنع البري …

وشرابنا شاي ساخن حلو ثقيل نرشفه تحت عمود الخيمة في حر الشمس، وامامنا فضاء الله…

ضحكوا علينا… أقنعونا أن نتمدّن ونبني بيوت الاسمنت… عمّرنا وسكننا وأدركنا أننا أنجزنا هجرتنا الأولى…

ولم نسعد… لأن قلوبنا ظلت مشلوحة على أوتاد الخيام التي طويناها…

لكننا اعتدنا دلال الكهرباء والهاتف …وفهمنا أن المدارس مفيدة لأولادنا… فسرقناهم من فضاء البريّة وبعثناهم إليها…

على وقع القصف الذي بدأ ينهمر علينا منذ العام الماضي ندمنا على بناء الاسمنت الذي لا ينشلع كالخيام ولا يهرب معنا إلى الأمان… فهربنا وخلّفناه يدافع عن نفسه ولا يفلح…

اعتذرنا من خيامنا وأعدنا إليها هيبتها في الفلاة غير بعيد عن ضيعتنا التي كنا عمرناها… فكانت هجرتنا الثانية…

عدنا يجمعنا سمر الليالي امام الخيام، كما في الزمن العتيق الحلو… إلى ان وصل القصف إلى خيامنا من جديد… عادت امطار القصف كل ليلة… فنقلنا مضاربنا أبعد… وتتبع القصف أثرنا وعاد يفتك بنا…

و خلصنا إلى أن بيننا خائن أو أكثر… (عواينيّة..) يبلّغون حماة الديار أن الهاربين من صفوفهم يحتمون بيننا…

وعرفنا الواشي؛ ولم ينكر!…

قال: المال حلو من بين أيديهم… روحي أبدى !… روحي أغلى نحن من رحيل إلى رحيل… لا نشتغل.. حتى اغنامنا ما عادت تعطي الحليب … أنتم ترضون… انا لا أحتمل الفقر…

وحذرناه وهددناه وراقبناه …وظل يغيب إليهم ويعود …ويعود القصف بعده… ونخسر من ابنائنا ومن ضيوفنا…

اجتمعنا نحن الأخوة و أبناء العمومة وأحكمنا حوله الطوق وهو يراوغ: ما أوعدكم!.. ما اقدر….

من منا سيحاكمه؟! من سينطق بالحكم على الخائن؟!

أشجعنا واتعسنا مصيرا كان أخوه الأصغر! شهّدنا على قراره معلنا محاكمته الميدانية بأن صوّب مسدّسه نحو صدر أخيه… وفقس الزناد… ثم؛ وفي غمضة عين؛ و كأن قراره التالي كان جاهزا في رأسه: برم يده واستدار بمسدّسه إلى رأسه… رأس قاتل اخيه !… فهجمنا واتزعنا المسدّس منه قبل ان يخترقه الرصاص ويستريح!

وشلعنا خيامنا وجئنا في نزوحنا الثالث إلى” تل جيده “…

ودّي أبكي …ودّي ابكي …

.

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.