الصفحة الرئيسية / زوايا / يمّا لا تبكين

يمّا لا تبكين

نجاة عبدالصمد
خاص بدحنون
 
 

“لا يُمّا …لا…يمّا لا تبكين…لا تثيرين المواجع…”

لا يُمّا أنا لا أبكي، لم يموتوا جميعهم بعد. غداً ستصلنا عن إخوتي، وعن إخوة زوجي الأخبار. وإلى حينها:

أنا فقط أتسلّى، أقضم الوقت و أتسلّى،  وأحيانا أحدس، وأحيانا أحلم، وأحيانا أتذكر، وأحيانا أنصت…

أتسلى بعدّ مَن ما زالوا أحياء في ضيعتنا. أصعد إلى سطح مأوانا، أصغي إلى مسار القذيفة من مرماها هنا إلى مرساها هناك. أحدس أنها لم تُصِب بيتنا. وأنّ كيس صابون “زهر الزيتون” لم يندلق من خزانتك على الأرض، وأنّ أخي الصغير سيذهب إلى ضيعتنا ويأتينا به لنغتسل. تفسّخت يداي من صابون الجلي الخشن. سأخبرك أنني في الشهور القليلة التي أعقبت زواجي السعيد من (رجا) سرقتُ صابونة منه أكثر من مرّة، و أرخيتُ يدّي تذوبان فرحاً برغوته الكريمة النمّامة عن بخلك الكاذب. ولم أخبرك كي لا تغضبي.

لا تندمي لأنك كنت تحتفظين بصابونك للضيوف. هنا: نحن الضيوف!

أحدس أنّ القذيفة أصابت بيت جارتنا أم سعد الله. أندم لأنني لم أجبرها على النزوح معنا. سأبكي من الملل لو عدنا غدا و ما وجدناها؛ مع من إذا سأقضي كل تلك الأمسيات الرتيبة غدا حين سنعود؟! متى سنعود؟ طال مقامنا هنا يُمّا.

“لا تديري وجهك عني يمّا”…أنا أيضا أحلم. أحلم ببطانية لي وحدي: كل يوم تقولين لي: دورك اليوم في البطانية كي لا يبرد جنينك.  وأنت أيتها العجوز: متى سيأتي دورك فيها؟! ألم يعضّ البرد مفاصلك بعد؟ ” لا تكذبي عليّ يُمّا” تقولين أنك أكلت رغيف خبٍ و أبقيت لي هذا الرغيف. تظنينني  لا أعرف أنّ هذا الرغيف وحيدٌ مثلنا، وخائفٌ من الفناء. سنتقاسمه يُمّا و نترك منه لقمة للغد، لحين فرج الله…

أنا أيضا أتذكّر. تذكرتُ (رجا) عصر أمس ورجوته أن يزورني في الحلم. و لم يبخل. في الحلم ضمّني و دفيت. أفقتُ عرقانة وسعيدة رغم أنّ البطانية كانت تغطيكِ أنت. قلتُ له: خذني إليك. غضب وصرخ: وعدتِني ألا تموتي. ظنّني نسيتُ  أنه لا يطيق اليتم و أنه لا يتذكّر هناك شيئا كما يتذكّر أنّ والدته ماتت وهي تلده. الموتى لجوجون. الشهداء أكثرهم لجاجة. تصوّري أنه حتى هناك يظلّ يسألني متى ألد؟  يظلّ يطلب مني ألاّ اموت و أنا ألد. حتى هناك ما زال يحلم بابننا يحرس من بعده المكان.، يحلم بي أحرس ابننا وحدي. لا يعرف الشهداء شيئا عن وجع الأرملة …يُمّا….

أصغي جيدا يُمّا: هذي انطلاقة قذيفةٍ جديدة. بدأت هبوبها بعون إيران أو روسيا. تطير ملهوفةً إلى بيتنا. سيزوغ مسارها بعون الله. لن يموت إخوتي، لن يموت إخوة زوجي. لن يموتوا جميعا…

تعالي ننصت معا إلى ململات حفيدك في بطني. تعالي ننصت معا، نحن الأرملتين الوحيدتين في ملجئنا.

تعالي ننصت و نتسلى و نحلم…

 

 19/10 2012

عن نجاة عبد الصمد

نجاة عبد الصمد
طبيبة جراحة وكاتبة. صدر لها في الترجمة عن الروسية: مذكرات طبيب شاب (قصص). الشباب جسد وروح (كتاب طاولة). بلاد المنافي (رواية). غورنيكات سورية (مرويات).

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.