الصفحة الرئيسية / نصوص / شهادات / مذكرات أحمد سويدان / تاريخ من لا تاريخ لهم – ٧

تاريخ من لا تاريخ لهم – ٧

أحمد سويدان

 

اليوم الأول 1/2 
ها هو تاسع شباط يمر علينا في هذا السجن البعيد , الراكد , نتسلى بمتابعة حرب الخليج. الأمل ضئيل في نظام صدام حسين. لقد خاض الحرب مع إيران لصالح الأمريكان والسعودية، والآن يخوض حرباً مدمرة، وحمقاء ويعتدي على استقلال بلد عربي مجاور وعضو في الأمم المتحدة، إن أمريكا ستزداد قوة في الخليج. هذا رأي البعض، والبعض رأيه عكس ذلك وقد عبر أحدهم عن ذلك قائلاً:
منذ وحدة الثمانية والخمسين والصراع الخفي، والعلني مع الغرب وأمريكا وإسرائيل، تكال الضربات القاصمة لحركة التحرر العربية من أجل إسكاتها وتفتيتها وتشظيها، ومنذ هزيمة /5/ حزيران برزت أمريكا عدوة لحركة التحرر ومؤيدة علناً لإسرائيل كما بدأت المرحلة النفطية ضد التطلع الوطني العربي. أفرزت الحرب الأهلية، اللبنانية، كما مهدت لوقوع الحرب العراقية – الإيرانية، كما تم تفويـض النظـام السوري كي يقضي على الحركة الوطنية اللبنانية وتحالفها مع ” فتح ” وتحويل القذافي إلى المستنقع التشادي، وتأجيج وضع حركة جنوب السودان، والخلافات الحدودية بين اليمنين وإضرام النار الأيديولوجية بين اليمن الجنوبي المدقع واليمن الشمالي المضطرب اقتصادياً وقبلياً. هذا يتم تحت مظلة كامب ديفيد والسادات وأموال النفط والرعاية الأمريكية، وطرد السوفييت من المنطقة، الآن يأتي النظام العراقي الثوري يحسم الموضوع.
تصدي له آخر: قف عند ذلك ولا تكن متحمساً، ومع كل ما تقوله إذاعة بغداد، النظام العراقي توأم للنظام السوري الديكتاتوري. جاء عام 1978 بمباركة أمريكا، وخاض حربه مع النظام الإيراني , (الذي أغلق فوراً سفارة إسرائيل مستبدلاً ذلك بسفارة لمنظمة التحرير) تلبية لمصالح أمريكا وشجعت ذلك السعودية وكل دول التعاون الخليجي وقدمت المبالغ الهائلة، وقدمت أمريكا جزءاً كبيراً من التكنولوجيا ومواد الدمار الشامل هي وأوربا، فصدام حسين البلطجي لا يمكن أن يكون ثورياً وضد أمريكا والسعودية لقد انقلب الآن على حلفاء الأمس ولا بد أن يدفع ثمن حماقته.
علائم البرد والقهر عنوان عريض لما عليه نفوسنا في هذا السجن.

 

اليوم الثاني 2/2 
موجة شديدة من البرد حيث يزداد هذا البرد وقعاً على السجين الجالس دوماً وراء الأبواب المقفلة . والأمر الأخص عندما يطفئون التيار وتعم الظلمة فلا نسمع سوى وقع الريح في الخارج، وإن غفا البعض فالأحلام تراودهم وقد روى أحدهم أنه رأى ابنته وقد تركها ابنة سنتين , وهي تقول له: أبي، أنا الآن في الصف الثالث، أتذكرك مثل الحلم أذكر أنك كنت تحملني، أذكر صوتك، أبي متى ترجع؟. ألا يكفي سبع سنوات! يفصل بيني وبينها الضباب والمطر والبرد القارس. ثم يظهر وجه زوجتي أسألها: كيف تعيشين؟ .. فتجيب : أعمل في معمل تابع للمحافظة. دبرت هذا العمل بعد سنتين من اعتقالك.
أحياناً يستمر الحلم في اليقظة. السجين عندما يكمل الثماني سنوات ولا يزال أفق السجن ممدوداً على مداه، يختلط لديه النوم باليقظة ولا يستطيع التفرقه بينهما، يتداخلان مثل أواخر النهار مع أوائل الليل.
بعضهم مصرٌّ على أن هذه الحرب التي يشنها صدام على الخليج هي حرب شريفة وثورية، وأحيت فينا أملاً باندحار الكابوس الإستعماري – الرجعي . إنك ترانا نزحف كالجرادين نحو الأخبار. نسمع أكبر كمية منها.
أتأمل في تصرفات هذا النظام الذي سجن الآلاف ودمر مدناً فوق رؤوس سكانها، وخاض غمار تصفيات بشرية، أنه يخوض معركة تقدمية ضد الرجعية.

 

اليوم الثالث 3/1
يستمر البرد الشديد، نجلس في الزوايا بعضنا يقرأ وبعضنا يلعب الورق وبعضنا يلعب الشطرنج، ونتتبع أي خبر ترسله الإذاعات. مؤكدة أن هذه الحرب ستعزز الوجود الأمريكي.
في السجن تزداد الحساسية ويحتل أي أمر حيزاً أكبر من حجمه، لذا تجدنا ننفعل ونتجادل، ونراقب عن طريق التنصت أصوات المهاجع الأخرى.
بدأنا نخـرج لمدة نصف ساعـة إلى الممر للتنفـس، وقد سألني طبيب جناحنا الرفيق (ن) خريج الاتحاد السوفيتي أن أطلب من إدارة السجن الخروج أكثر نتيجة التقدم في العمر . وفعلاً خرجت لمدة ساعتين , ووقفت أكلم المهاجع من الكوى عن (الباص) وهو اختراع خيالي.
كنت أطمئن كل شخص ترتفع درجة حرارته الصعود إلى هذا الباص الخيالي وأن يجلس في المكان الذي أختاره له، وسوف يشعر بالأمان ويصل إلى بيته، لكن الأكثرية في هذه الأيام لا تريد حديث الباص بل حديث الحرب.
هذه الحرب التي تحمس لها البعض واعتبرها حرباً موجهة ضد الأمبريالية وضد الرجعية الخليجية والسعودية واعتبرها بأنها لن تكتفي بالكويت بل ستغزو أرض الجزيرة العربية وربما تصل اليمن!!. والبعض اعتبرها وسيلة لزيادة النفوذ الأمريكي.

 

عن أحمد سويدان

أحمد سويدان
أديب وصحفي متقاعد من مدينة السلمية، معتقل سياسي سابق لمدة إثنا عشرة عاماً ونصف 1982- 1994. أصدر بعد خروجه من المعتقل ثلاث روايات قصيرة: الزمن العقاري، كذبة نيسان، ومرآة الأنام، حيث تمكن من إعادة انتسابه لإتحاد كتاب العرب، بالإضافة لمجموعة قصصية عن مدينة السلمية بعنوان "خيوط تقطعت".