اليوم الثاني عشر 12/2
وقع صاروخان أحدهما على تل أبيب عاصمة إسرائيل والثاني على الظهران في المملكة العربية السعودية. خرجت من الباب عندما أخرجوا مواعين الماء، كانت الساعة السابعة .. في الزاوية أنهض ببعض التمارين الرياضية، الشمس تدخل من الشبابيك والصفاء يحتل صفحة السماء.
لو تعرف ابنتي ريما التي بلغت الآن الثمانية عشرة , كم أنا مشتاق لرؤية الشمس والسير أمام بيتنا برفقتها، أنظر من الشباك وأنا أرتقي صندوقاً من الخشب .. أرى السفوح والسهول وراء الأسوار والمحارس، رأيت القمم البعيدة للهضاب .. نسيت كيف يمشي الناس ثم أنزل، وأستأنف التمارين الرياضية. مفاصلي تتحرك ببطء لا تزال همتي نشيطة وقدرتي على القراءة والإستيعاب مقبولة بالنسبة لعمري. إن الكثير ضربوا في سمعهم وكذلك في بصرهم.
دخلت المعتقل وعيني اليسرى (10 من 10) الآن أصبحت (8 من 10) أما اليمنى فهي كما كانت (4 من 10) بسبب الكسل الوظيفي الذي رافقني منذ طفولتي . أمي – رحمها الله – تقول خلال السنوات الثلاث الأولى لم يظهر شيء على عينيَّ، ثم بدأ بعد ذلك يظهر على اليمنى فقد أضيف على الكسل الوظيفي انسدال في الجفن، وهو من جراء رميي في الظل وتحت السقف لكي لا يراني أحد. خوفاً من “العين”. رحم الله أمي, ماتت منذ ثلاث سنوات وهي تردد اسمي.
اليوم الثالث عشر 13/2
أشارت الساعة إلى العاشرة ليلاً، يوجد في المهجع عنصران نائمان أما الخمسة عشر الباقون فمستيقظون، هناك حلقة من ثلاثة يتحدثون، وهناك حلقة من أربعة يراقبون لعبة الورق، وهنا اثنان يمشيان في ممر المهجع أما الباقي فيقرؤون . من عادتي أنام باكراً وأستيقظ باكراً. وهكذا لا أدري متى رأيت هذا الحلم أبعد منتصف الليل أم قبله!. لا أعلم. رأيت نفسي في أزقة البلدة ” السلمية ” والوقت بين الغياب وبين انتشار الظلمة وكأنني أقصد مكاناً معيناً، وصلت المكان الذي يبنى وهو كوخ من الخشب ما زال جزءاً منه غير تام والذي يعمل هو المهندس الزراعي أكرم زعير، وهو سجين بيننا أراه بين يوم وآخر. يمتاز أكرم بالمرح وهو من عائلة متوسطة الحال يعمل قسم منها أعمالاً ميكانيكية ويقتنون الحفارات المائية، ويعمل قسم منها في الزراعة وبعد تخرجه تم تعيينه باتحاد الفلاحين – الرابطة في بلدة السلمية التي ينتمي إليها وعقد خطوبته على معلمة من آل الحموي ثم جاء إلى السجن، هذه الخطيبة لا تزال تنتظره وتزوره منذ ثماني سنوات ونصف.
رأيت في الحلم بناء الكشك وفي خارجه قامت العوارض الخشبية التي تشبه معرشات الدوالي وأكرم يشتغل عليها مقرفصاً بحجمه الوسط . ناديت عليه رغم الظلمة فجاوبني. التفت رأيت جواري طستاً ممتلئاً ماءً وإذ بأكرم يلقي نفسه من أعلى العارضة ويأتي مقرفصاً، قلت له: لقد ألقيت نفسك إلى الأرض وجئت كما تريد كرياضي بيني وبين الطست. لماذا هكذا تصرفت ؟ .. قال ضاحكاً: حِدْتُ عن الماء وحاذرت إيذاءك، في الصباح رأيته وحكيت له الحلم وضحكنا.
اليوم الرابع عشر 14/2
قصفت أمريكا. ملجأ العامرية .. وهكذا يكذب ادعاءها بأنها لا يمكن أن تتعرض للسكان. وجَّه الإعلام العراقي ضربة إلى الإعلام الأمريكي والأوربي. يرى البعض أن العراق يخوض معركة شرسة ويرى البعض أن احتلال الكويت من أجل المزيد من الهيمنة والسيطرة الأمريكية. يرى البعض كذلك أن توسيع المعركة إلى السعودية والخليج سوف يكون لصالح العراق , ولكن محدوديتها في الكويت فقط سوف تكون لصالح أمريكا وحلفائها . ومهما يكن فالنظام العراقي على المستوى الداخلي فكك البلاد وفرض عليها إرهاباً قل مثيله في العالم، فهو ضرب الأكراد وضرب الشيعة وعادى إيران وليس بينه وبين نظام الأسد أي علاقة.
إن النظامين البعثيين يحقدان على بعضهما جداً هما ديكتاتوريان، وإرهابيان، ومجرمان بحق شعبهما. ومن يقول أن نظام صدام فيه مروءة العروبي هو غبي وغير متعمق في أصل النظام كلاهما استولى على الحكم وقتل رفاقه وقيادات حزبه واستفرد بالحكم، وكلاهما صادر التنفس وكلاهما له مصالح مع أمريكا والسعودية . لكن الأسد ثعلب حقيقي أما صدام فهو ثور هائج. البعض يعتبر صدام حسين قمة في الوطنية والثورية وأنه مرسل لتوحيد العرب، وتحرير النفط، وطرد الأجنبي من أرض العرب، والبعض يؤكد على يقظة الضمير لدى الملك حسين. إن السجين يخضع لضغوط شتى .. الأخبار تفعل فعلها فينا .. حياتنا رتيبة وحزينة دوماً.
اليوم الخامس عشر 15/2
أذاع راديو بغداد نص بيان هو مبادرة سلام بعد مضي شهر على المعارك الدائرة وقد طرحت هذه المبادرة:
انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي المحتلة.
انسحاب النظام السوري من لبنان.
انسحاب متزامن للقوات العراقية وقوات الحلفاء.
وقد رفضت هذه المبادرة فوراً من قبل واشنطن ولندن وباريز وتم الترحيب بها من قبل طهران وموسكو. إن الحلفاء لا يريدون من أحد أن يشاركهم في القرار. يريدون السيطرة وتسويق النفط، وسلب الخليج الإرادة فوق ما هو مسلوب .. السؤال الآن والذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع صدام الصمود لكي يفرض شروطه؟
صدام حسين في انقلابه على حزب البعث واستلامه الحكم لم يكن سوى مغامر، ويؤمن بالدم والإرهاب ولذا وجد الأمريكان بمغامراته وعناده فسحة واسعة لتحقيق أحلامهم وقد نفخ إعلامهم في قوته وخطره على الديمقراطية.
أقرأ في كتاب هاوزر وقد وصلت إلى القرون الوسطى . المركزية الأوربية في جل تسلسلها الفني والاجتماعي والأدبي والفلسفي لا تأتي على ذكر الحضارة العربية، وكأنها خارج التسلسل الحضاري.
الجو العام القائم في المهجع ناقم على الأوربيين والأمريكيين , لأنهم لا يريدون تطبيق قرارات الأمم المتحدة على إسرائيل، وقد سمعنا “نافون” يتكلم من إذاعة لندن أن دولته شرعية وأن إسرائيل ملتزمة بالقانون الدولي.
اليوم السادس عشر 16/2
بعد إعلان البيان من إذاعة بغداد البارحة أطلقت القوات العراقية في بداية هذا النهار صواريخ على مدن جبيل والظهران والرياض في العربية السعودية وصواريخ في الليلة الماضية على إسرائيل . واستمعنا إلى حديث الجنرال أركان حرب متقاعد سعد الدين الشاذلي الذي أشاد بالصمود العراقي حتى الآن، وبسلامة قواته البرية وبخوف الحلفاء من شن الهجوم البري، وتشجيعـه على خوض المعركة البرية . وقدر البعض – وهذا يدل على رغبة خاصة أكثر منه رأياً – أن خوض العراق للمعركة البرية يقرب النظام السوري من السقوط . وآخرون يرون أن العراق سيندحر وأنه لم يعد للمعركة عدتها وأنه بالأساس نظام فردي فاشل , وثمة من يقول أن للأسد دور في التخريب الوطني.
إن الآراء والمناقشات والحوارات تتداخل في عالم السجن . يقول بعضهم إذا ما ظفر العراق على أعدائه في المعارك البرية القادمة سيؤدي ذلك إلى تغيير خارطة تشرشل وسيكون مستقبل أمريكا وإسرائيل على كف عفريت، رد عليه شخص كنا نعتقد أنه نائم من تحت البطانية: يا صاحبي الحلم غير الواقع والذي يده في النار غير الذي يشرب العصير.
اليوم السابع عشر 17/2
أثناء الخروج إلى ساحة التنفس التقيت الرفيق الشاب يوسف زوده مواليد 1959 . اعتقل في صيف 1983. وقد أمضى عامين اختصاص هندسة دبابات على حساب الجيش في الاتحاد السوفييتي وقبلهما أمضى عاماً في دراسة اللغة الروسية . ولكي ينهي دراسته لا يزال بحاجة لعامين آخرين . أثناء إجازته الصيفية تم القبض عليه ولا يزال، وهو من قرية بين مصياف وحمص في الوادي الذي يبتدئ بالبيضا والبياضة، هذا الوادي الذي ازدهر في الفترة التي كانت فيها أفاميا ,ولا يزال هذا الوادي مليء باللقى . يوسف صريح ويتصرف كالأطفال . قبل خمس سنوات بدأت تظهر لديه أنواع منوعة من التعب العصبي والنفسي , تثيره الضجة ويثيره الكلام الكثير والنقاش والقراءات الصعبة . ومنذ عام مال إلى الصمت والوحدة وعندما تمشي معه تجده أكثر من طبيعي، ويتكلم بطيبة عن أعصابه وعن ضَياعه، وإحساسه بالملل واللاجدوى، يمر بحالة من الفصام والزوغان في الذاكرة، ويسمع أحياناً أصواتاً متداخلة يصاحبها طنين وينقطع.
مشيت وإياه حدثته عن زياراتي، عن أولادي، عن قراءاتي، عن بيتي وانتقلت إلى الحديث عن أحوالنا، وأننا بعد تسع سنوات أصبحنا غير طبيعيين وأن اللغة –لغة المحادثة- تتواصل بمفردات غير مفهومة بل تبدو كلغة المتصوفة ملأى بالرمز والدلالات، مفتوحة على كافة الاحتمالات. شعرت أنه ارتاح لحديثي ووصفت له ما أعانيه من إحساس بالظلم وحقد على النظام . كان شارداً مع لمعان في عينيه، ويبتسم بقامته المديدة، سألته عن زياراته فقال: – طوال العام تأتيني زيارة أو زيارتان، والداه عجوزان وأخوته تزوجوا سوى واحد وأحوالهم ليست على ما يرام قلت له: كلنا سواء في حالة العوز. وعدته بلقاءات أخرى.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.