جوزيف كوديلكا، مصور الغجر
جوزيف كوديلكا، مصور الغجر

كل شيء على ما يرام

جفرا سيف الدين

 

1)
شباكي العالي يطل على حقل مليئ بالجثث، ولا أستطيع التوقف عن التذمر من الرائحة النتنة التي تغلف يومي كغيمة لئيمة… الجثث ليست مشكلة كبيرة لكن الذباب الشرير يلتصق بزاوية فمي, أحاول تجاهله بلا جدوى.
أقف في الطابور كالجميع أمام الشاحنة المجهولة الهوية لأتلقى حصتي من الطحين. أريد أن أحتج وأرفض تلك القذارة الممتلئة بالسوس التي سلمني اياها الرجل الأنيق الواقف فوق رأسي، لكني كنت خائفة من الجوع. أخذت حصتي و مضيت مطأطئة الرأس و أغنية عنيدة تتردد في رأسي (يمامويل الهوا ويمامويليا, ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا).. من هو النذل؟ سائق الشاحنة؟. الرجل الذي يوزع الطحين؟ المرأة التي ضربتني بكوعها بقوة في خاصرتي وهي تحاول الحصول على حصتها؟ الجوع؟ شباكي العالي؟.. ضيعت النذل في الإزدحام ولن تنفع الخناجر التي أشهرها هنا الا لبقر بطن اليوم الذي كنت أريده عاديا..
على طريق العودة، صادفت جارتي، كانت تحاول اللحاق بالشاحنة، سألتني: هل رأيت الحريق؟ سننتهي قريبا من موضوع الرائحة، انهم اخيرا يحرقون الجثث.. فكرت” من شباكي العالي سيضيء الحريق، الليل.. من الأعلى يكون المشهد خلابا عادة”.. لم يتسنى لنا الوقت للثرثرة لكنها قالت شيئا عن فتاة محروقة تجلس على الكرسي قرب سريرها ليلا

 

.. 2)
كل شيء على ما يرام.. لدي 10 أكياس شاي و علبة دخان و مساحة تسمح لي بمد ساقي.. لدي ألوان أرسم بها ثقب على الحائط أقفز به كلما حاصرني البرد كجرذة.. لدي تفاحة في الثلاجة وربطة خبز و ملح وقنينة زيت زيتون كاملة.. الموتى بعيدون في الطرف الأخر من الكوكب ولا تصلني أصواتهم.. كل شيء على ما يرام.. لدي قلم رصاص وورقة بيضاء تماما تصرخ بي “حاولي مرة أخرى”.. لدي أغان كثيرة عن الأمل والحب العاطفي والحرية.. والموتى بعيدون في بلد سوف يختفي قريبا ويتركني لشأني فأنا سأكمل الطريق.. لدي صوت أمي وصورة أخي وأبي على قيد الحياة هناك، يخبرني بمكر أنه لا يحتاج لشيء، لا يحب الراحة ويغفو جيدا على أصوات القنابل فلا داعي للقلق.. كل شيء على ما يرام.. لدي أصدقاء حضاريون يبتسمون لي ويتفهمون مشاكلي ويمنحونني الكثير من المساحة الشخصية.. أستطيع الذهاب إلى السينما أو إلى الحديقة، المتاحف أيضا متوفرة هنا والمقابر مرتبة ومشرقة بأزهارها الجديدة دائما، لا تعصر القلب كمقابرنا الفوضوية.. كل شيء هنا على ما يرام حتى أني أوشك على الإختناق.

 

 

الصورة: جوزيف كوديلكا

عن جفرا سيف الدين

جفرا سيف الدين
كاتبة من سوريا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.