أنا السوري في لبنان، أنا الذي لم يجتذبني لبنان الأخضر الحلو ولا لبنان الأزرق الأنيق. أنا الذي منذ خمسين أو ستين عاماً ورثتُ العمل فيه من أبي، أبي الذي لفظته بلاده فانحنى لأقداره الكافرة خارجها
أجيء إلى لبنان حين تناديني فرصة عمل، وأستبشر خيراً بدوامها حين يتصالح السياسيون، وأجمع أغراضي القليلة لأغادر حين تتفجر خصومات زعاماته مع زعيمنا الأوحد..
هو حالنا الذي لم يتبدل، أنا ومئات الألوف من السوريين أمثالي لم نجئ يوما سائحين، لا قبل زلزالنا السوريّ ولا بعده، ولم نقصد يوماً أن نغبّش جمال الله في لبنانكم. أحببناه مثلكم لا لجماله، إنما لاحترامنا لقمة العيش فيه.
حواني لبنانكم هذا على امتداد شبابي. أودعتُ ذخر روحي في الخدمة عند خواجاتكم على أن أنال لقمتي بشرف.
ما كان لديّ الوقت لأشمّ عبق الصنوبر، أو أستحمّ بندى الجبال إلا عبر نوافذ القصور التي وظّفني أصحابها حارساً أو خادماً لها في حضورهم وفي أسفارهم إلى مهاجرهم
ولم أدخل مقاهي الحمرا ثم السوليدير لأشرب البيرة الباردة أو النبيذ الحلو. كنتم ترونني ساهراً فيها كل ليلةٍ لأملأ كؤوسكم حين تفرغ، وأبدّل نفاضات السجائر حين تمتلئ، وأنظف الصحون من بقايا أطايب الطعام، وأحرص على أن تعود لامعةً أمام من سياتي بعدكم، ولأكنس الأرض بعد أن يغادر الجميع في سياراتهم ثملين سعيدين إلى شققهم العصرية. أغادر منطفئاً من الأسى والتعب، أسرع في المشي لأفرد إسفنجتي الرقيقة، وأمدّ فوقها بطانيتي الأليفة، رفيقتي القادمة معي من سوريا التي أحب، سوريّتي المحبوبة التي ما تزال تنكرني!
ما كنت أملك لا المال ولا الوقت لأشمّس جلدي تحت شعاع الشمس على رمل شواطئ جبيل، ولا ملكتُ لا المال ولا الحظ السعيد لأسترخي على خملة المقاعد الوثيرة في كازينو لبنان، أو أنادم القمار وأحلم بربحٍ يسافر بي إلى خدّ القمر
وما كنتُ أذوق أكواز الذرة ولا حبات الترمس والفول النابت الذي أبيع على كورنيش الروشة، ولا دللّتُ نفسي من كسبي بسريرٍ وثيرٍ أو بثياب ماركة، أو حتى بعلكةٍ تعطّر فمي وتطرد طعم الريق المرّ من حلقي
وحرصتُ، كما أوصاني أبي، على الرضا بالمهن التي لا ترتضون، والرضا بأقل القليل من الأجر، وانتظار الكثير من الفرح حين يصير هذا القليل بين يدي أطفالي في سوريا
وليس ذنبي اليوم أن الملايين من أهلي السوريين حلّوا على أرضكم ذاهلين ومحتمين من كل فنون الموت..
هم مثلي لم يأتوكم سائحين. هو، لو شئتم أن تسمّوه، سياحةٌ (بالصرماية)، لا حلماً بلبنان الأخضر أو الأزرق
فهم، وبعد أن لفظتهم بلادهم، لن تحلو في عيونهم أيّ أرض.
هو نزوحٌ كنتم اختبرتموه من قبل في كلّ حربٍ نهشت لبنانكم الوديع. ولم يصدف أبداً أن قيّد السوريون رجالكم ومدّدوهم وسط الطريق دروعاً بشرية، ولا جلدوا أطفالكم ولا تركوا نساءكم يشحذن على كل رصيف
كان أليق بكم، لو تتفكرون أن حالكم أمس هو حالنا اليوم، وأنّ تفهُّم حالهم هو صورتكم في مرآة أنفسكم لا في مراياهم
يحق لي أن أحلم. فقط أن أحلم، أن يعلو صوت حلمي هادراً، كاسحاً ضعف حنجرتي. أن أصرخ في وجوهكم أنا وأخوتي في المصير. نحن لن نحمل العصيّ ولا الخناجر ولا المسدسات، ولن نشعل الدواليب في الشوارع والساحات ولن نخطف من رجالكم أو أطفالكم أحداً
سأحلم لو نُضرِب نحن العمال السوريون في لبنان كله يوما واحدا عن العمل، لو نرتاح في مآوينا يوماً واحداً من ترف العمل، ونتعزّى بالتمشاية المهلى علّنا نكتشف أخيراً بهاء لبنانكم الأخضر العامر، وقد نتشفّى بنزقكم أمام أراكيلكم الخامدة، وبؤسكم في مقاهيكم الموحشة، ومطاعمكم الذابلة ومسابحكم المعكّرة في غيابنا. نتابع السير في شوارعكم وقد طفحت بالأوساخ، ونشمت ببؤس أرصفتكم حين لا تؤنسها أناشيد باعتنا الجوالين السوريين، وأنتم تسيرون فيها خجلين حتى بألوان أحذيتكم الباهتة وقد نأى عنها حنان البويجي السوريّ؛ حنان قلبه الأبيض الذي طالما سبق حنان يديه الملطختين بالسواد…
مقال رائع وكلمات جميلة من القلب الى القلب شكرا لهذا القلم الحر شكرا لهذا القلب الكبير الذي ينبض بآلام الفقراء وأحلامهم شكرا لكل من انحاز الى المظلومين والمقهورين شكرا للدكتورة نجاة عبد الصمد
شكرا لهذا القلم الحر شكرا لهذا القلب الكبير الذي ينبض بآلام الفقراء وأحلامهم شكرا لكل من انحاز الى المظلومين والمقهورين شكرا للدكتورة نجاة عبد الصمد