تفاجأتُ بيدي تركض نزقةً صوب رأسي، تنزع ربطة المطاط التي اعتدتُ أن أضفر شعري بها كل يومٍ فور عودتي من العيادة الى البيت، وبكلّ عزمها تقذفها أبعد ما يمكن عني، ولا تهتمّ أين يمكن أن تكون سقطت.
لم أكن أنا التي أمرتُ يدي بعقاب المطاطة المسالمة. كان مصطفى تاج الدين الموسى هو الفاعل. هي عبارته المختبئة في إحدى قصصه: ” لمح بين الأوراق ربطةً قماشية مطاطيّةً ملونة، من تلك التي تسجن الطفلات الصغيرات خصلات شعرهنّ داخلها.. “. جملةٌ بسيطة وغير بريئة، توحي لعقلي بأنّ الربطة سجّانٌ على يدي أن تقمعه، لا أداةٌ ودودةٌ تلجم شعري المشاغب.
هكذا يتملّكك مصطفى تاج الدين الموسى وأنت تقرأه، ويشدّك من أُذن قلبك إلى عالمه المتخيّل، القابع في مجموعته القصصية: “قبوٌ رطبٌ لثلاثة رسامين”، والصادرة في طبعتها الثانية في حلب عن دار “نون” عام 2013 والحائزة على المركز الثاني في جائزة الشارقة للإبداع الأدبي عام 2012 والمكتوبة بين عاميّ 2008 حتى 2010. قصصٌ منسوجةٌ بجمالٍ أدبيّ صادمٍ لا يهزم الموت الذي لا يُهزم، لكنه يقتل الضجر في حياتنا، ويسدّ ثقوبها المفتوحة على سائر الأهوال.
قصصٌ، (خلقها بنفسه عن سابق إصرارٍ وترصّد ليصفع بها وجه الموت علّه يهزمه ويربح الأبدية)، كما يكتب في الصفحة الأخيرة تحت عنوان: “ما يشبه الخاتمة”.
تنغلق المجموعة على 12 قصة تنفتح كل واحدةٍ منها على عالمٍ مدهش في شخوصه، وفي موضوعاته، وفي تبسيط صياغته، وفي النهايات التي لا تقلّ إدهاشاً عن متن النصوص.
يتحيّر القارئ: هل الذبابة وحدها “أسباب المشاكل” التي يحملها عنوان القصة الاولى عن انعضال الحال بين الرجل والمرأة الجالسين في المقهى، واللذين لم ينتبها إلى أنه لم يعد بينهما حديثٌ يتقاسمانه؟! ويتفهّم قارئ: “التاريخ الحديث للمعاطف” أن الفقير والبردان والمحتاج يتصوّرون الدنيا كلها ثياباً تلبس البشر الرخيصين، لا بشراً يلبسون المعاطف الثمينة، حتى صاحب المحل يتحوّل إلى بضاعةٍ تأتمر بتوجيهات المعطف المودرن الذي يتصدّر الواجهة. وتنكز قصةُ: “تمثالُ من ثلج” غفلة الإنسان وانشغاله بالتفاهات أو بالتسويف في ذهبِ الوقت، فلا يصحو من غفلته، أو يصحو متأخرا حين لا ينفع الندم.. (حاول، تذكّر ما قاله لك جدك في ليلةٍ قديمة: “لا تجعل امرأة ما تحبك تنام حزينة منك!). ولا يتذكّر، ولا يعود بإمكانه أن يتذكر، لأن زوجته الحزينة ستموت في تلك الليلة، بينما هو سيفكر في طريقةٍ ديبلوماسيةٍ لاسترضائها غداً.
قد تكون قصة “حارس السينما” نوّارة هذه المجموعة. هي (صندوق الحياة السرية للبشر البعيدين في مدن ما وراء المحيطات..). قصةٌ آسرةٌ وكثيفةٌ كالفيلم السينمائي: “آخر تانغو في باريس”، التي جعلها مصطفى، في جزءٍ منها، تتكّئ على أحداثه السريالية الساخرة من شدّة القمع في عالمنا الأرضي. قد تنتفض روح القارئ في سياق السرد ليسأل نفسه مع الصوت الذي يسأل حارس السينما (بطل القصة): “متى كانت آخر مرة حاولت فيها أن تغني؟..” نعم متى كانت آخر مرّةٍ حاول فيها أحدنا أن يغني؟ حارس السينما الذي اختار أن يهجر العالم ويحيا مع الأفلام في الصالة المعتمة: (كلماتي وصوري أسرقها من الأفلام. منذ عشرين عاماً وأنا أشاهدها وأتعلم منها الأشياء التي لا يمكن أن نعثر عليها في مدينتنا حتى ولو عشنا فيها ألف عام..) هذه المدينة التي: (كل شيءٍ فيها مسموحُ إلا الحب!).
في قصة “حياةٌ في الضباب” يتلصّص مصطفى على شرود عامل النظافة في ليلة مناوبته الباردة في الكراجات: (الآن لا شيء أمام أنفه سوى رائحة معطفه ورائحة القمامة ورائحة عربات الباعة الجوالين، الذين رحلوا إلى مدافئهم مع بداية الليل، ورائحة بخار ابريق الشاي الذي كان يتخيله بالاشتياق..)
في قصة “شيء ما لا يموت” يظلّ حيّاً حليبُ الأم التي انتحرت منذ أربع ساعات وصعد رضيعها، بعد مكابدة رهيبة، إلى السرير الذي تمدّدتْ عليه، ونبش ثديها ومصّ منه الحليب. وفي النقيض لهذا البذل حتى بعد الموت يتبدّى الشرّ الكامن في نفس الإنسان الذي يتمكّن من زرع الفتنة بين أربعة شياطين في قصة “ضجر الشياطين”
ويجول القارئ في قصة ” قبو رطب لثلاثة رسامين”، والتي حملت عنوان المجموعة، وتتحرّك في دماغه أسئلةٌ كانت راكدة: لماذا تقيم الطليعة المغرورة بنفسها في هذا القبو المتعفّن، ولماذا هي فخورةٌ كل هذا الفخر بنتاجها الذي لا يفعل شيئاً أكثر من أن يحبط الجمهور؟!، وهل يُنتظَر مجيئ من يعرّي غرورها ويعيد تدوير إبداعاتها على نحوٍ يبعث الرغبة بالحياة؟!
وتختتم المجموعة قصة “موت الخوف” ببوحٍ صغيرٍ أنْ الخوف طبيعةٌ رقيقة في الإنسان. ومن لا يعلن خوفه هو الخائف.
كل مقطع صغيرٍ في المجموعة عالَم كامل.
لعلّ مصطفى قصد ألا يحمّل عالمه سماتِ مكانٍ ما بالتحديد، ولا تواريخ تجعل للسرد دلالة واقعية، ولا سمات المجتمع السوري أو سواه على وجه الخصوص. فالمجتمع السوريّ مثلاً لم يألف عمل النساء نادلاتٍ في المقاهي كما تشتغل بطلة قصة “أكثر المساءات سعادةً في حياة النادلة الشابة” التي في نهاية القصة: (خُيّل إليها من بين دموعها أنها تغني كلمات رسالتها للغريب بنشيجٍ له لحن. غنّت رسالتها كما تغني الأغنيات التي تحبها على إيقاع تلك الموسيقى العبثية. أشرقتْ فيها كومضةٍ كلُّ الأغاني التي عشقتها في حياتها، تلك الأغاني التي كانت، في الأصل، وقبل أن تُغنّى، رسائلَ حب لغرباء لا أحد يعرف أسماءهم. غرباء حياتهم تشبه سجائرهم؛ اشتعالٌ فاحتراق، ثم رمادٌ وانطفاء، وما بينهما بضع قبلاتٍ ارتُجِلتْ ببهاء، وبهدوءٍ جمّ…). إنما يريد مصطفى لأبطاله أن يكونوا بشراً طليقين، غير مؤطّرين بزمان أو مكان، تجمعهم الوحشة على اختلاف بلدانهم. وحشة الأنسان القلق والهائم والمغيَّب والكثير الأحلام والقليل الحيلة، والمقهور الذي يحمل في صدره خوفاً غامضاً من شرٍّ لا يعرفه، وخواءً عميماً كهذا الذي يسلب عاملَ النظافة حتى دفء الذكريات: (الآن لا شيء في ذاكرته ولا حتى صورة لوجه انثوي دافئ ينتشل قلبه من كمائن البرد).
تحضر الجثث في معظم القصص: جثة الذبابة التي يظنها العاشقان سبب البرود في علاقتهما، وجثة اللاجئ الغريب الأطوار، وجثة الزوجة المهجورة، وجثة الأم المنتحرة، وجثة العصفور الذي نسي عامل السينما أن يطعمه، ثم جثة عامل السينما نفسه بعد أن فُجع بجثتي الحبيبين الصغيرين اللذين أتى مَن يغتالهما بعد أن آنسا حياته الخاوية.
وفي كل القصص دخانٌ وضباب. دخان السجائر وضباب الوحشة التي تحجب الرؤى، وتحيل أيامنا إلى ضباب. الجميع يدخنون كما يتنفسون، ولا يعرفون لماذا يدخنون (لفافة تبغٍ أولى، ثم ثانية، وثالثة، فرابعة قضتْ نحبها على شفتين جافتين قلقتين، حفرت فيهما أعقاب اللفافات على مرّ الزمن خنادق عميقة لحروبٍ لا مرئية يخوضها يومياً ضد القلق ومشتقاته..) وفي كل القصص مطر وبرد وريح وضياع…
أسلوب مصطفى بسيطُ وشيّقُ ورشيقُ وثريّ المفردات، وسلسٌ وحلوٌ في جميع قصصه المرّة التي يهزم مرارتها بسخريته المحبّبة. ويعلّق في ضمائرنا السؤال: هل كانت حياتنا قبل هذا الموت السوريّ الجماعيّ الحاضر الآن؛ هل كانت كئيبةً حقا إلى هذا الحد ولم نكن نعرف؟! ومتى لحق أن ينضج هذا الشاب المولود عام 1981، وخرّيج كلية الإعلام ـ جامعة دمشق، والذي بدأ بكتابة قصص تنال جوائز محلية منذ عام 1998، وتتخطاها لاحقاً إلى جوائز عربية؟!
يعتقد مصطفى أنّ لوالده القاصّ الراحل “تاج الدين الموسى” دوراً غير مباشر في شغفه بالكتابة بحكم الإرث البيولوجيّ والحاضنة البيتية والتعلّم بالمصاحبة. وإلى والده يخطّ إهداءه في مقدّمة مجموعته الأولى هذه: (إلى تاج الدين الموسى، القرويّ الذي تزعّم بكل تواضعٍ، ومن غير قصد، انتفاضة القصة القصيرة الساخرة في المستنقع الأبديّ للتهريج…)
كان أولى بالمدقق اللغوي أن يتولّى بعض الزلات اللغوية، ويصحّحها كي لا تجفل أذن القارئ المأخوذ بهذه النصوص الجميلة، منها مثلاً هذه العبارة: “عيونه وعيونها يتابعان هبوط الجثة لتستقر في منفضة السجائر الخشبية)ـ ص9
يقولون: ليس مهما ما تكتب المهم كيف تكتب! لكنّ مصطفى تاج الدين الموسى؛ يبدو متمكّنا ممّا يكتب، وكيف يكتب!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.