مساحة بحجم عضلة الذراع تلك التي تشكّلها مساحة قريتي من جبل الأكراد بريف اللاذقية (جبل الكراد) كما تحلو لأهله تسميته حسَب اللهجة، ممتعٌ سماع صوت مخارج الحروف حين يتحدّثون فيما بينهم وأعتقد أنها تشبه آلية عمل البطارية ذات القطبيين السالب والموجب، فأنت تحتاج إلى طرف ثانٍ أمامك من الجبَل حتى تظهَر كل مفاتن تنّور تلك اللهجة وطيبتها وريفيتها، وحين لا يتوفّر ذلك الطرف تأتي محلها (اللهجة البيضاء) بالحديث مع الآخرين.
عين الحور قريتي لم يبق من اسمها إلّا العَين، حيث أن الحَور الشجر لم يعد شامخاً، اغتالته يدّ أهلها بالمنشار الآلي. الفقر والحاجة يجعلانك تقطع يدك إن اضطررت لذلك، ليس الشجر فحسب. بقي عين الماء في حارتين مجرّد ديكور يذكّر بتعاضد الأهل في مدّ خط الماء منه إلى الضيعة. الإحساس بالحالة الجبلية أجمل حين كتابة ضيعة محل كلمة قرية المتعجرفة.
حين قُطعت الخدمات عن الجبَل (ماء، كهرباء، هاتف أرضي، خلوي) فَرِحَ العين كثيراً وبدأ الماء وهو يخرج من الحنفية يرقص الباليه لأنه عاد إلى ممارسة هوايته في سماع أحاديث الفتية والفتيات عن الأستاذ سابقاً كيف يلحق الآنسة الجميلة حيث تتواجد، متهكّمين عليه بكلمة (لقلوق) أو أحاديث الجدات عن أزواجهن الكهول الذين لا حاجة لوجودهم أولئك الذكور البائسون الذين لا يعرفون الإستمتاع بالحياة أو سيجارة التتن، حتى الدبابير الحمراء الشرسة المتجمهرة حول الجرن الممتلئ بالماء قدّمت عرضاً عسكرياً طائراً باهراً حين سمعت الخبر، رافقته الفرقة النحاسيّة المكوّنة من (الغالونات والعُصيّ) وبعض الفتية الدّبيكة.
الحكايات الظريفة التي كنت أسمعها في صغري مازالت تضحكني إلى الآن ومنها المَقلب الذي فعله رعاة البقر الصغار بزعيمهم حسيب، ذلك الشاب حينها الذي يكبرهم سنّاً بأعوامٍ والذي بقي وحيداً حتى مماته لاحقاً، في أحد الأيام الصيفية وبينما حسيب غارقٌ بقيلولةٍ تحت شجرة (مرخ) كبيرة تتراقص أوراقها الإبريّة مع النسمات العليلة، قام الرعاة بربط عضو حسيب الذكري بواسطة خيط لفوه حول جذع الشجرة وقاموا بالصراخ بصوت واحد “ياااااا حسيب فيق فيق راحو البقرات ع أراضي العالم” فما كان منه إلّا انتفض من نومه مسرعاً يهمّ بالركض غير عارفٍ بمآل الأمور إلاّ حين صرخ من ألمه بذاك الصوت لحظة جعله الخيط المربوط بعضوه يتسمر في مكانه مجلجلاَ الوادي القريب بصوته “آآآآخ شو عملتو فيني يا ولاد الكلب” وبدأ بالسباب والوعيد بعقوبات لهم جميعًا على فعلتهم تلك. إلّا أن الرعاة كانوا يعرفون ما الذي يجعل حسيب مثل الخاتم بأيديهم، عناقيد العنب وبعض ثمار التين التي تجعل منه إنسانًا سعيدًا مسامحاً متخلٍّ عن الزعامة.
حسيب الذي كان يحذّرهم من دخول البقرات إلى رزق الناس والمقصود هنا أراضي أهالي القرية ملاّك البقرات وآباء الرعاة، كان لا يمنعهم من “الغزو”، مصطلحه الذي يرسلهم به إلى قطف عناقيد العنب وثمار التين من ذات الأراضي الممنوع على البقرات التواجد فيها.
في خريف العام 2008 كتبت للقرية نفسها بعد أن تبدّلت كثيرًا وما زالت، رسالة وطلبت من المطر إيصالها لكنه رفض وقال لي ما شأني أنا؟
قريتي الغسيل المنشور على خيوط الشمس فضيحةٌ، تأكل بعضها تحت المآذن وضجيج المقابر قليلٌ فيها وصخب الحياة أقلُّ، إليها أنتمي فتصدّني لا مكان لكَ هنا,أخاطبها قبل أن أرحل سأعجّل في الهروب كي لا تمضغني أسنان الوقت وترميني فضلاتٍ في سلّة الدائريين اللاهثين وراء خوازيق الزوايا المتآكلة,يحصرون أنفسهم كالجراذين في الأماكن القذرة، يرحَبون بين فروج النسوة شهوة.
لم يتحدث المطر فقط أومأ برأسه رافضاً,قلت له ذكيّ أنت أيّها المطر لا تنزل في أرض لا تحبها، فالله الموجود بقلب حسيب لن تجده هناك، لا تسألني أين هو لأني أيضاً لا أنزل في جوابٍ لا أحبّه.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.