حاولي، ضعيها في فمك وابدأي بطحنها بأسنانك، ستشعرين بأنَّك تلوكين عظامًا، ستدغدغ لوزك وتنتابكُ الرغبة بالتقيؤ وكأنَّ حشرةً دخلت حلقك.
ضعي إصبعًا في فمك وعضّيه أترين! لن تتحملي أكثر من ثوان.
اقرصي جلدك ما استطعت ِسيُخيّلُ إليك أنّ جسدك ليس سوى كتلةٌ من الألم.
أنتِ لا تملكين القدرة على تحمّل أي شيءٍ من ذلك، هذا مؤكدٌ لكنّك وفوق أي تفسيرٍ وبكلّ طبيعيةٍ تَلِدينَ طفلاً.
الألمُ وجهٌ آخرٌ لكلّ شعور. وجهه المقلوب.
أحدثَ أن ارتديتِ ثيابك بالمقلوب ولو لمرّة؟ هل لاحظتِ تلك الخيوط الغير منمقة، النافرةَ وكأنّها أوردة مقطوعة وجافة؟. من هنا مرّت إِبرٌ حادةٌ لتصنع ثوبك الجميل.
لاحظتُ يوماً بينما كنت أتفحّصُ هندامي أمام المرآة ، أنَّ قميصيّ الأسود بدا باهتًا بعض الشيء، فجأةً اكتشفتُ بأنّني تَنَقلتُ طوال ساعتين في ممرٍ خارج عيادة الطبيب بانتظار دوري بقميصٍ مقلوبٍ! كيف لم ألحظ ذلك؟ ولمَ لم ينبهني أحدهم!
– عذراً سيدتي إنّك تلبَسينَ قميصك بالمقلوب!
لكنّ ذلك سيكون محرجًا بلا شك. الكلُّ يرى الوجه الآخر وقلةٌ تلاحظه وتقريباً لا أحد يتحدث عنه.
الطبيعة تَهبُكِ طفلاً جميلاً في نفس الوقت الذي ينقلب العالم بكِ وأنت تصرخين من الألم. ولكنّك تتغلبين، ترينَ الجمال بما أُعطيتِ على الرَّغم من الوجع، تبتسمين لملاكٍ قادمٍ من أحشائك تُعيدين قلب اللحظة وتهمسينَ بصوتٍ يكاد يتلاشى “دعوني أضمه”، تحاولين إرضاعه متجاهلةً هول البراكين التي تدفقت دماءً من جوفك، معاندةً غُرزك الطرية، مستسلمةً لزلزالٍ هزَّ عظامكِ وأعاد تشكيلها وأنتِ تلبسين ذات الجلد، تشعرين أنّك تُحلِّقين معه، تساعدينه ليجد الحَلَمة، يلتقطها لأول مرةٍ ، يفلتها ،يتنفّس، يبدأ بالبكاء ثم يجدها ثانيةً فيهدأ، يتشبَّثُ بها بعزمِ فكّيه، ليغرق بنوم ٍ عميقٍ تَعِباً من طول انتظار الحليب، غافيًا بأمانٍ وكأنّ الكون إلتأم بينكما في ذلك المتّسع الصغير، مابين حلمةٍ وروح .. تشعرين لوهلةٍ بقداسة اللحظات، تلتقطين تلك الهالة بفرحةٍ، تجمعينها بقلبك وتلقين بنطرةٍ على عينيه النصف مُغمضتين، تضمينه إلى صدركِ فتلامسكِ أنْفاسهُ الدافئة، تتأملينَ يديه الصغيرتين ويبدأ الضوء.. ذلك الضوء القادم من مكانٍ ما في السّماء يداعبُ المسافةَ بينكما فيُوشوش لكِ بكلِّ ماعليك معرفته عن هذه المعجزة الآتية توَّاً من رَحِمكِ، المحملة بنور الرَّب، المشبعة بالرموز والقشعريرة، المزدانة بالسحر، الموشومة بالحب.. لاتفسري شيئًا.. حينها لن تستطيعي إلّا الانفتاح على وحيٍّ من جمالٍ مُحمَّلٍ نثيثًا من سحر الخَلق لتتندى به مساماتك المفتوحة.
هذا الطفل لن يتوقف عن البكاء إلاّ حين يشبع. أرضعيه، أعطيه أمانًا، أغمريه.
إنّه الألم مجددًا، لن تستطيعي إرضاعه، حلمتيك تنزّان ألماً ودماً كجرحين مفتوحين، في سرِّك تقولين “لايهم”.. تلقمينه الحَلمَة، يتمسَّكُ بها، فيتضاعف الألم، تبكين، وبعد لحظاتٍ… تهدأين، تتماسكين، تبتسمين ودموعك تغسل وجه طفلك، تنتصرين مرةً أخرى وتفرحين لأنّ شيئًا لم يمنعكِ عن مدّه بالحياة حتى آخر الصرخات التي استنزفتكِ..
الحمدلله.. تتمتمين وتستعدين لوضعه على الحَلمَة الأخرى.. ناحية القلب..
الجميع مهتمٌ بوهب الفرح، الحب ربَّما إن استطاع، لكن من ذا القادر أن يهب الألم بكلِّ هذا الفرح؟ بكلِّ تلك القوة الطيّبة، بقدسيَّة الحب.. كما تفعلينَ أنتِ؟!
على أنَّ ذاك الملاك الصغير الضعيف، أو الذي كانه يوماً، والذي أغدقته بمعجزة العطاء تلك، يملك ذاكرةً من ورقٍ أتلفها النكران، وأحرقها الإستعلاء الأجوف، يجاهرُ اليومَ بماهو واجبٌ عليك فعله، طريقة تفكيرك، لباسك، سفرك ، عملك، يصنّفك “ثانيةً” بعد أوليته المطلقة ويراهن على قياس عقلك بما جمعه من ترهات الشيوخ وخيّاطي الدين الرديئين مكابرًا متناسيًا كيف تشبَّث يومًا برَحِمك.. بثديّك.. ثم بيديك، حائرًا أمام عقلك مختارًا أن يراه من منظار الذكر.. لا أكثر.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.