ذات ظهيرةٍ استوائيةٍ ملتهبة وسط ازذحامٍ مروريٍّ خانق ،جلس طفلٌ قرب كومة ترابٍ تُركت على حافّة الشارع الإسفلتيّ المكتظ بأعدادٍ لانهائيةٍ من السيارات،بوضع القرفصاء دفن رأسه بين ركبتيه فانحجب وجهه،بدا منهمكاً بتقليب التراب بين راحتيه مهتماً به وكأنَّها المرَّة الأولى التي يمسك فيها ترابًا بين يديه ،قميصه الرَّث كان يسمح لجلده بأنْ يسدَّ فتحات القماش الكبيرة والممزقة،وأن يظهر إحدى عظام الكتفين.فوق رأسه على حافةٍ اسمنتيةٍ منخفصة تفصل بين مساريّ السيارات وُضعت علبة عصيرٍمن الكرتون، فارغةً، تنتظر ماقد يلقي به المارون. الإزدحام خانقٌ والسيارات بالكاد تتحرك، بعد دقائقٍ ظهرتْ سيدةٌ ووقفتْ خلفه مباشرةً ،انحنتْ وقبضتْ شعره بقوّةٍ فانقلبَ وجهه إلى أعلى وفغرَ فاه وأغمضَ عينيه، حينها تسرَّبَ التراب من بين يديه. المشهدُ كان صامتاً تماماً فلا ما قالتهُ السيدة كان واضحًا ولا ما تَلفَّظَ به الطفل، الشبابيكُ الصغيرةُ المقفلة كانت كفيلةً بصدِّ كلّ الأصوات .لكنّ المشهد كان جليًا، المرأةُ تَشُّدُ شعر الطفل بعنفٍ والطفل يصرخ .
ألن تتدخلي ؟ قلت لنفسي. إنَّها تضربه ! وماشأني أنا ؟ هي أمّه. وماذا لو لم تكن ؟ومن تكون إذن ؟ هذا يكفي دعيني وشأني!
كبستُ زرَّ تشغيل الراديو لأُسكتَ صوتي ،استقر على أغنيةٍ أحبها ل (شاكيرا )المغنية الكولومبية و(مانا) المكسيكيّ معاً بعنوان “أنتَ ملجأي وحقيقتي” . تابعتُ القيادة ،كان الإزدحام خانقاً والسيارات بالكاد تتحرك.
المرأةُ النحيفة لم تكن وحيدة كانت تحمل طفلا رضيعًا في حقيبة قماشية عقدت عند عنقها،تدلت رجليه الصغيرتين من فتحتين أحدثتا فيها،بينما تركت مفتوحةً من الأعلى ليستطيع التنفس، بدا مستسلماً وكأنه لم يولد بعد.
أفلت الطفل الهزيل من قبضتها وأمسك بكرتونة العصير مجتازاً الحافة القصيرة بقفزةٍ واحدة متجهاً نحو السيارات ذات الشبابيك المفتوحة،يمد ذراعه أقصاها لتصل علبته إلى حافتها علّه يحظى بقطعة نقود من أحد راكبيها.
المرأةُ النحيفة ذاتِ العظام البارزة ،تُراقب الطفلَ الهزيلَ الأسمر، لا وقت لتضيّعه في اللعب، كانت رسالتها واضحةً جدا.
بينما تقوم هي الأخرى بعملها يغرق طفلها الرضيع بنومٍ عميق، كان ذو بشرةٍ فاتحة وشعره الخفيف بالكاد يغطي رأسه الصغيرة، بينما بدت كزنجيةٍ خارجةٍ للتو من حقل الذرة، وعِوَضَ أنْ تحمل غِماراً من نباتها اليابس تأبّطتْ لافتةً متآكلةَ الأطراف متسخةً لدرجةٍ طُمستْ معها الحروف فلا تمّيز ما كُتب فيها ، لكنَّ أحداً لم يكنْ مهتمّاً بقراءتها، كان واضحاً ما أرادته دون أيِّ قراءاتٍ أو تمحيص، دون أيِّ أسألةٍ أو أجوبة، بل كان الأمر يحدث بأقصى سرعةٍ ممكنة ، تدقُّ الشباك وخلال لحظاتٍ قليلةٍ يأتي جوابٌ من ثلاثة : إمّا أنْ يُفتح الشباك ويُرمى لها بأيِّ شيءٍ ،وإمّا أنْ يتجاهل من في الداخل وجودها، وإمّا أن يُفتح لتَثِبَ المرأة إلى الوراء بوجهٍ فَزِعٍ خوفاً من صوتٍ عنَّفها، لم تحظَ في كلِّ الأحيان بتعاطف الناس مع ذلك المخلوق الضعيف الذي لازمها في عملها تحت أشعة الشّمس ذاك الرضيع الذي لايتحرك.. لا يفتح عينيه ..لا يجوع ولا يصرخ ، كان الجميل النائم دون أيِّ قظمة تفاحة!
بماذا عساه يحلم الآن؟ وهل يؤلم الحلم تحت الشمس الحارقة ؟ هل يذوب ؟ هل علينا تغطية الأطفال كي لاتتبخَّر أحلامهم ؟
تتنقل المرأة النحيفة ذات العظام البارزة والثوب المُهترئ بين السّيارات وبكل خفةٍ تحاول أن تختّرق الزحام لتطرق أكبرعددٍ من الشبابيك الممتّدة أمامها كالنهر ،علَّ صيدها يكون ثميناً هذا اليوم ،تمدُّ علبتها من وراء الزجاج ثمَّ تطرق الشّباك وتنتظر كذلك كان يفعل الطفل الهزيل الأسمر ذو الشعر الكثيف الأسود .
لا وجه لتلك المرأة ،أحاول اعتصار ذاكرتي لاستحضار ملامحها فلا أستطيع ،هي لا تشبه من نراهم في كل مكان إنّها تنتمي لأولئك البشر الذين لا وجه لوجوههم، كأنّها معدومة ملامحهم ممزوجة بالسواد كرغيف محروق.
وجه العوز تهمة حتى من غير أن ننظر إليه نتجنَّبه.
فتحت الإشارة وانطلقت السيارات وابتعدت المرأة ومعها الرضيع دون حراك.
بينما ركع الطفل الهزيل ذو الشعر الكثيف ليستريح في ظل الحافة الاسمنية المنخفضة يُمرِّق أصبعه عليها ليكتب أحرفاً من غبارٍ كان قد علق على أصابعه ،ومن جديد يَغرِفُ تراباً براحتيه وينثرها على الجانبين دون أن يرفع رأسه وكأنّه يحاول أن يستغّل كلّ ثانيةٍ ليركّز بكافة حواسه على حبات التراب قبل أن تغلق الإشارة وتبدأ جولته التالية في الزحام ،هو يمارس اللعبة الوحيدة الممكنة هنا، يذرو التراب،هنا إلى جانب الشارع حيث لا يلاحظه أحد.
التراب لم يكن كرةً أو طائرةً ورقية، وجانبي الطريق لم يكونا مرمى لتسديد الهدف، وعلبة العصير لم تكن ليشربها اذا ما شعر بالعطش، والحافة الإسمنتية لم تكن دفتراً، وسائق السيارة الذي صاح بوجهه لم يكن والده الذي حرمه المصروف بسبب تحصيله الدراسيّ المتدني والطفل الذي تحمله المرأة لا يشبهه والمرأة التي شدّت شعره لا شيء يوحي بأن تكون أمّه …وحده التُّراب الذي أمسك به كان الحقيقة التي يحاول إمساكها كلما هدأ عالمه المزدحم.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.