وخزة

تذكُر؟
– أذكُر.
كيف كانت، بارِدة ؟
– على العكس، دافئة. دفئاً لم أتحسسهُ منذ زمن.

مدفونٌ يحترقُ تحتَ جبلٍ من صقيع، رغمَ ذلكَ يخفقُ حزناً ليستمر التغني باعتلائِهِ عرشَ الخوف، ينظُرُ بِكفيفِ عينينِ ثَمِلتا من نخبِ خيبةٍ تُكررُ نفسها بِكُلِّ يومٍ ارتكبه. عينينِ لديهما أمنيةٌ قديمةٌ بالتدحرجِ واقتلاعِ كُلَّ ذرةِ رمادٍ تركها صُراخٌ ملَّ صداهُ في زوايا أملٍ ضبابيُّ الملامح، أسمعُ خلالهُ حديثنا الذي كنا لِندخلهُ كاملاً، بِكُلِ ما فيهِ من جنون.

كُلُّ ما أُريقَ من حزنٍ حتى الآن فشِلَ في امتصاصِ آلامِ مولودٍ قُذِفَ بِهِ ليكونَ مُجردَ روتيناً آخراً، يبدأُ بِكُلِّ صباحٍ خطيئةَ البحثِ عن دفءٍ قديمٍ حاولَ التشبثَ به، يقومُ بِشحذِ أكاذيبِهِ جيداً ليعيشها، يقضي يومهُ مُمسكاً دبوساً صغيراً يخزُ به تُربةً ميتةً علّها تحيا، يسمعُ بِكُلِّ وخزةٍ شهقةَ بُكاء يعرفُ جيداً مصدرها، لها لحنٌ خاصٌ بهِ، يتراقصُ عليهِ خيالهُ ليُكوِّنَ صورةً لطالما عَشِقها، أيُّ مُحاولة يأسٍ من وخزِ التُربة تُقمَعُ بالخفاء، ليبقى دوماً متشبثاً بِدبوسهِ، يشعرُ بسعادةٍ تملأ قلبهُ بعدَ مخاضِ انتصارِ يومٍ آخر، يحلُمُ كُلَ ليلةٍ بدبوسٍ جديدٍ تضعهُ تِلكَ الشهقةِ قُربَ رأسهِ، حتى ينتهي الحُلم ويستيقظ ليُعيدَ مُمارسةَ ما يعتقد أنه يُجيد، كُلَّ ليلةٍ تراقِبُ حُلمَهُ هرةٌ صغيرة سوداء،على جبينها ووجهها القليلُ من الوبرِ الأبيض، تقفُ على شُباكهِ بلا حراك، شعرَ دوماً بِعُفونةِ تواطئها بصدِيِّ دبوسهِ، يقترِبُ منها بحثاً عن دبوسٍ جديد، تهرُب، ما أن يُحرك ساكناً.

عادَ مرةً أُخرى، جثى على ركبتيهِ بِبُطءٍ فوقَ التُربة، بدأ بغرسِ الدبوس كعادتهِ، لم ينسَ أيُّ بُقعةٍ فيها، لم تُصدر أي لحن، نكزها بإصبعه، ضربَ يدهُ بِقوةٍ فوقها مصاحِبةً صرخةٍ مُدويّة ليوقظها، لم يحدث شيء، سوى قليلٌ من الدماء سالت من يده اعتقد أنها منها، يبدأ الضربَ بجنونٍ فوقها، امتلأت يدهُ بالدمِ المُلقمِ بحقده، لم يعد يقوَ على حمل الدبوسِ مُجدداً.عادَ خالياً من أي شهقةٍ كان يقتات عليها، انتظرَ الهرةَ طويلاً مُتوقعاً معرفتها سببَ كتمِ التُربةِ ألمها، لم يظهر حينها سوى صوتٌ غريبٌ يوقِظني من نومِيَّ الثقيل، يخبرني أنَّ صوتَ الموسيقا عالٍ جداً .

كنتُ على ثِقة أن كُلَّ ما حصلَ مُجردَ حُلُمٍ يمكن أن يراهُ أيُّ كائن، حتى وقفت على شُباكي هرةً صغيرة سوداء،على جبينها و وجهها القليلُ من الوبرِ الأبيض، شعرتُ بصقيعٍ كوخزةِ دبوس، لم أستطع أن أتناسى ألمها إلا بِتذكر دفء شهقاتِ التربة.

تذكرها جيداً؟،
صِفها لي؟،
لذيذة؟

عن حسين الماغوط

حسين الماغوط
كاتب من سوريا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.