لا أعرفها ولكنّنا معًا في هذه الغرفة منذ أربع ساعات. هي ممدّة على السرير وقد أسلمت يدها إلى جهاز تتبّع الضغط ونبضات القلب وأنا على كرسيّ يابس أفرك الوقت والأفكار.
الغرفة باردة كما كل غرف المستشفيات. ألقت على نفسها شال كتفيها. هل أتت به من بغداد؟ جلدي كان باردًا أيضًا ولكنّ نارًا ما كانت بداخلي تلهب الأشياء والقلب ورغبة في أن آخذ العالم بيدي وأقلبه، لأنّه في الأصل عالم مقلوب.
أخبرتني بكل شيء. على مدى الساعات كانت تحملني بكلامها من مقعدي، تدخلني في الحكاية، تفتح أمام عينيّ قلبها وجروحها، تمدّ يديها لتريني “هكذا.. هكذا”، ترفع قدميها لأرى أثار خطواتها، تسكب دمعها على وجهي، ترمي بتنهيداتها بين ضلوعي، تأخذني من يدي إلى بيتها وتعرفني على بناتها وابنها الوحيد، تضعني تحت شجرة وتخبرني “هنا.. هنا” .. كانت تفعل بي كل ذلك ثمّ تعيدني على مقعدي ليريحنا الصمت قليلًا قبل أن نستكمل رحلتنا في الرواية.
إنها الآن على قيد الحياة، سليمة إلاّ من ثقل الهواء في رئتيها وثقل الحركة في ركبتيها وثقل ما تركته وراءها وثقل ما لم يأت بعد. لكنّها على قيد الحياة. أنظر إليها وأفكّر: بعد أن أخرج من هذه الغرفة وأعود إلى البيت أريد أن أبكي طويلًا وأطلق على الحياة أسماءً جديدة، لأنّ امرأة كهذه استطاعت أن تبقى على قيد الحياة.
لا أعرفها لكنّني رافقتها إلى المستشفى لأنّ في مخيم اللاجئين ذلك، أقصد مبنى مكاتب الشركات الذي تحوّل بين ليلة وضحاها إلى مخيّم لخمسمائة لاجئ، لم يكن فيه ذلك المساء أحدٌ غيري يتكلم العربية والألمانية. أخذتنا امرأة ألمانية بسيارتها الصغيرة. قالت أنها جاءت لتساعد. هكذا، تركت حياتها وانشغالاتها وحوّلت سيارتها البسيطة إلى سيارة إسعاف تحمل اللاجئين مسافات طويلة من مستشفى إلى آخر دون تردّد، دون أن تنتبه للتعب والليل الذّين زحفا على أعصابنا وعضلاتنا ولم يكمل الأطباء تحاليلهم وتحليلاتهم بعد.
حين يحرّرنا الطبيب وأعود إلى البيت أريد أن أضحك من قلبي لأن امرأة ألمانية كهذه على قيد الوجود. أريد أن أبكي لأنّ الإنسان كائن جميل لكنّ العالم مقلوب.
لا أعرفها لكنّي عرفت لماذا كانت تشعر أنّ شيئًا ما كان يُطبق على صدرها ويخنقها. وعرفت لماذا كانت تقولي لي “يمّا”. وعرفت كيف يمكن لامرأة من العراق أن تكون نخلة.
“والله يمّا ماكو شي ما شفته من العذاب”، ويخرج دمعها من عينيّ.
مصنع التوابل في بغداد كان يكفي لتعيش مع زوجها وبناتها وابنها الوحيد حياة كريمة في بيت دافئ قبل أن تهشّم التفجيرات زجاجه. بناتها تزوجن وانتظرت بلهفة الأمومة الأولى أن تصبح جدّة للمرة الأولى. ابنها الوحيد كانت تتربّص به الوحوش والمدينة كانت لعبة بيد الطائفيّة والموت.
“والله اختنقنا يمّا”، وتسقط غصّتها في قلبي.
حمّلوها وزر الأمل بالهروب والنّجاة وغادرت مع زوجها وابنها وابنتها الصغرى، دون أن تنسى أن تلقي خلفها التفاتة طويلة ووعودًا لبناتها باللقاء. في تركيا، سكنوا بيتًا صغيرًا اقتحمه المجرمون بالغاز المخدّر وسرقوا جوازاتهم وأموالهم ثمّ هربوا.
عبرت الحدود! امرأة في سنّها ووزنها مشت في الغابات لأيّام حتى خارت قواها وقالت لزوجها وهي تدفعه بيديها وتدفع فيه حبّ البقاء على حبّها: اتركوني هنا وواصلوا الطريق. لو قدر لنا الله اللّقاء سنلتقي حتى لو التهمتني الغابة.
والتهمتها الغابة لأن الدّليل خانهم. لم يكن هناك بيت صغير من الخشب تطرقه لأنها تاهت وتدخله لأن أقزامه نسيوا بابه مفتوحًا فتشرب حساءهم الساخن وتنام على أسرتهم الوثيرة. ورابنزيل، هي أيضاً تاهت في الصحراء لكنّ حبيبها تتبّع صوت غنائها وعثر عليها.
لماذا لم تغنّي في الغابة يا خالة؟ لماذا لم يغنّي الذين غرقوا في البحر يا خالة؟
حين ينتهي كلّ شي وأعود بهذه المرأة إلى سريرها في المخيم وأعود إلى بيتي بقلب محشوّ بالقهر سأبكي كثيرًا لأنّ الحياة ليست قصّة للأخوين غريم.
لكنّها المرأة النّخلة. تذكّرتْ بناتها اللاتي تركتهن خلفها. تذكّرت أنّها تريد أن تُصبح جدّة. تذكرت التفاتتها الطويلة ونظراتهن التّي لن تعبّر عنها كل قصائد الأرض. ومشت طويلاً إلى آخر الغابة.
“الإنسان ما بيضعف إلاّ إذا ضعف من جوّا يمّا”
لا أعرفها لكنّي أعرف أنّها كانت أمّي وكنت ابنتها ولو لأربع ساعات.
4 تعليقات
تنبيه المشاركة لو كانت الحياة قصّة للأخوين غريم – |طَبْعَة أُولَى|
تنبيه المشاركة لو كانت الحياة قصّة للأخوين غريم – |طَبْعَة أُولَى|
تنبيه المشاركة لو كانت الحياة قصّة للأخوين غريم – |طَبْعَة أُولَى|
تنبيه المشاركة لو كانت الحياة قصّة للأخوين غريم – |طَبْعَة أُولَى|
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.