أحاول استحضار ذلك الفرح، أبتلع المرار العالق في جوف حلقي، أشق ابتسامة من عمق الضباب المتراكم حول فمي.. وتحضرني دمشق في أبهى أيام ثورتها. كان ذلك قبل ليلة فقط من اقتحام القابون، ذلك اليوم الأسود الذي شهق لأجله آلاف السوريين لاستشهاد أربعة عشر زهرة من شبابها في ساعات تكاد لا تتجاوز الثلاثة،و بنرجسية ثائر قلت مرة أنني أحسد نفسي فقد حظيت بلقاء أهلها و سهرت معهم قبل ذلك اليوم الثقيل .. اليوم الذي استطاعوا أن يجتثّوا فيه الألق المنهمر من شوارعها ويزرعوها غضباً وترقباً ووحشة.
كان لمؤذن العشاء ذلك اليوم سحرٌ خاص، لوهلة شعرت أن حياتي مرتبطة بصوته، جسدي معلق فوق مئذنته فما أن ينهي الصلاة حتى يسقط الجسد راقصاً على أكف الشباب والنسوة.. نافذة القلب مفتوحة إلى أقصاها.. الهواء من فضة وأنا أتأبط ذراع أحد أصدقائي، فأنا اليوم سأتظاهر، يغمرني الخوف و الشوق وخفقة قلبي تصلّي على وقع أصوات المصلين في الجامع الكبير، أنا هنا.. ثقيلة بما يكفي لأخترق الأرض.. خفيفة كأني سأتهاوى و أصير غباراً يكمّ أفواه المارقين الحاسدين.
شعرت أن خفقان قلبي المجنون أخرج ذلك الشاب عن صمته وجعله يقترب منا ويشد ساعد أحد أصدقائي هامساً:
– أنتو من هون؟
– لا ناطرين رفيقنا عم يصلي!
– طيب اتفضلوا نطروه عنا بالمحل.. أول عالم بتسمع بالمظاهرة نحنا.. لا تخافوا ما رح تروح عليكن!
ضحكنا خلسة، لم تجفل قلوبنا لحظة، ولم نعكر نشوتنا بفكرة أنه قد يقتادنا إلى مكان يصغر فيه الوطن ليصبح بحجم قامة ضئيلة.
سرنا خلفه إلى محل الموبيليا الصغير ، ما إن ولجنا الباب حتى صار ترحيبه أكثر حرارة وحيوية، جمع الكراسي المتناثرة في أرجاء المكان، رتبها حول طاولة صغيرة ودعانا للجلوس.
– شرفتونا.. مية أهلا وسهلا..أنا فلان الفلاني.. من وين الصبايا والشباب؟
نظرنا بخجل في وجوه بعضنا وكأننا نقرر أننا سنكذب.
– نحنا من الشام.
– بس هالقاف مو شامية!! ؟
في تلك اللحظة يدخل شابان أحدهما يحمل أربعة كؤوس من الليمون المثلج والآخر سبقه بلهفة إلينا ليقدمها مرحباً للمرة المئة.
لم يثلج الليمون ما استعر في القلب، لظى كلماتهم أحرق حتى عيوني وجفف الدموع، كنت أود أن أقول لأحدهم أن يصفعني لأصدق أنني لست في حلم، الحديث يستمر حولي وأنا على ظهر غيمة، أستلقي بحيرةٍ وخفة.. المظاهرة بعد قليل .. وكل الحب الذي أعيشه هذه اللحظة وجملته التي قطعت شرودي ليقول :
– يا شباب إذا كنتو من الساحل لا تخافو مشكلتنا مو معكن، مشكلتنا مع النظام.. مين ما كانوا رجالو ومن وين ما كانو يكونو.. ثورة الكرامة ما بتميز بين درزي وعلوي وسني ومسيحي.. كلنا بدنا حرية.
انطفأ نار الانتظار فجأة ، وعلق الليمون بين الملعقة وشفتي.. يا لضحالتي..! أكنت سأقول ما قاله لو كنت مكانه؟؟ أنا التي لايزال يتسلقها الخوف كلما فكرت أنها ستتعرض للاعتقال..! هو واقف وسط المحل يصرخ عالياً وأنا لا أزال أسدل الستائر لأتلصص على الأخبار لئلا يمر أحد جيراني في حارتي المؤيدة ويسمع ما أستمع إليه..
هو منعتق، أنا حذرة
هو حر.. أنا أوشوش نفسي دائماً لأقنعها أنه من غير المنطق أن نقدم أنفسنا على طبق من فضة إلى مائدة الأمن العامرة كل مساء.
– الله أكبر حرية “يأتي الصوت من الخارج هادرا”
ويسقط القلب، ألملم نفسي .. العلم الشال.. أقفز إلى الباب، لأنظر من خلال الزجاج أتنفس وأتنهد وغصة الفرح علقت في جوفي.. لقد خرجوا أخيراً.
وبلهفة طفل يرى لأول مرة قافلة بابا نويل يجرها غزالان، صحت بأصدقائي لحث الخطى حملت العلم و خرجت..
خرجتُ: شرنقةً قشورها جبالٌ من القهر المتراكم المتوارث ، أحُتُّها بغضب لأزيلها عني..سئمتُها حد القرف..و
أمامي أرى الولد الذي يصرخ للحرية.. يا ولد.. يا ولد أين كنت!!
دراجة نارية تتوسط الجموع.. نصب فوقها مكبراً متواضعاً للصوت النسوة يتوافدن من كل جوانب الساحة عاصبات رؤوسهن بربطة رمادية فوق حجاباتهن طبع عليها باللون الأحمر كلمة إرحل..
إنها أول مرة أرى فيها علم الاستقلال منتصباً أمام عيني مرفوعاً على عصىً خشبية برفقة العلم الرسمي.. وكأن حاملها يقول نحن سوريون نريد الاستقلال.. أو أننا شعب كفؤ ليحقق الحرية ..أو أننا مهما اختلفنا سوريا الثورة تجمعنا …أو أو…
تمنيت لو أنني بألف عين وقلب لأجمع التفاصيل ولا تفوتني واحدة.. لأحضن أنفاس هؤلاء أحصيها وأحكي عنها حكاية لا تنتهي.
صرخت.. ضاع صوتي القوي الحاد.. لكنني كنت أسمعه بوضوح أطلقت ذراعي كما البقية إنها لحظة أشبه بالصلاة.. حركة واحدة.. خطوة واحدة.. صوت واحد.
رقصت.. بكيت وبكيت.. وبين الهتاف والآخر كنت أطلق ضحكة واضحة لم أستطع كبحها.. أتلمس نفسي لأتأكد أن هذه الشابة هي أنا..وشعري المكشوف أفلت من ربطته وراح يرفرف معي.. طلب إلي الاقتراب من النساء لأغراض الحماية.. مشى صديقيّ إلى جانبي وكأنهم يسلمونني أمانة للنساء المجتمعات.. نظرت إليه إحداهنّ وقالت : روح يا ابني لا تخاف هاي أمانة بعيونا. ثم التفتت إلي وقالت : شرفتينا.. وأنا .. خرست.
مشينا ومشينا والساحة تبتعد، وألف شمس ترتسم على الوجوه.
سمعت نفس المرأة بجانبي تقول أن القناصة قد تمركزوا على أسطح أحدى البنايات، وأشارت إليها.. ثم نظرت إلى وقالت : لا تخافي أنا من جهتهن.. أنا بحميكي..!
يا إلهي..! ابتلعتني الأرض ولفظتني عشرات المرات.. إحساس جديد بالضحالة والخرس.. نظرت إلى وجهها المغطى وعينيها المتألقتين أردتها أن ترى امتناني .. كان هذا أقصى ما أستطيع منحه.
في ساحة اللقاء.. حكايا مخباة، ينتشلها الثوار أنشودة أنشودة. .يلقونها في أحضاننا.. شعرت أنني رجعت مع صرّة مترعة بالحكايا.. والحياة.
أطلقوا الألعاب النارية الملونة عند انقطاع الكهرباء.. أطلقنا صفارات تشجيعية والنساء زغردن وقلبي يلهث ويلهف ويحترق.
يا قابون .. يا حكايتي الغير منسية..مشوار حلو شفيف.. حبق أسقيه في الذاكرة لأصبح أجمل.
وثقوا الذاكرة وأعدوا ما استطعوا للنسيان .. فهذا الموت فضيع
*//كان ذلك قبل ليلة فقط من اقتحام القابون، ذلك اليوم الأسود الذي شهق لأجله آلاف السوريين لاستشهاد أربعة عشر زهرة من شبابها في ساعات تكاد لا تتجاوز الثلاثة،//*
يا قابون
يا حبق الذاكرة