في وسط ساحة القرية وعلى انقاض ما تبقى من مأتم الشهيد، افرغ مشط الرصاص في الهواء من مسدسه الذي استلمه حديثاً. اعلن (رغدان) وبوضوح لا لبس فيه عن حضوره المسترجل في زحمة الهتافات الثورية ذاك اليوم.
(رغدان)، أذكره كطفل يتسلق على دواليب الطائرة العامودية التي حطت في “كرم خزاعي” المقابل لبيتنا لتحمل جثمان سلطان الأطرش إلى مأتمه الكبير في السويداء. كان في قمة الإصرار، يدل الطيارين على الأزرار التي يعرفها عن ظهر قلب في مقصورة القيادة ليقنعهم انه زميلهم الشهيد الذي (تقمّص) ليعود لهم بجسمه الجديد – تلك القصة التي تناقلتها الألسن فيما بعد في كل مكان عن معجزة الطفل الطيار – … أيه، تلك الأيام أذكره فيها جيدا، كان يسير مزهوا بنفسه يسردها كلما سنحت له الفرصة. وما أكثرها في بلدة تتعطش للأخبار والحكايات.
تدرج (رغدان) في سلك ذاكرتي بعدها، لكن كومضات. أذكره في سن المراهقة حين قدم إلي حاملاً اخبار عشقه الطارئ لفتاة رائعة الجمال – لم تلحظه حتى ولو بطرفة عين – لكنه كان الموله بها حد الجنون.. وإلا، فما الذي قاده إلي دامعاً ليخبرني – وانا الذي أصغره بعدة سنوات – عن كل هذه المهانة.. كان فعلا كالممسوس. يومها أخبرتني أمي ان أهله يفكرون بدعوة شيخ ما ليكتب له حجاب يحميه من سحر العين.
حين كنت في السنة الإعدادية الأولى. طالباً جديداً قطع مرحلة مريول المدرسة الإبتدائية ولبس بكل فخر اللون الخاكي..
الفصل شتاء وغرف الصفوف عامرة بالأولاد والبنات الذين لم التق بمعظمهم من قبل، فمدرسة البلدة كانت تخدم عدة قرى محيطة.. أذكر دخول الموجه التربوي علينا يطلب اشتراك ليرتين عن كل طالب لدفع تكاليف المازوت من أجل التدفئة وأن المتخلف عن الدفع سيفصل عن الدراسة حتى يحضر النقود. بعد يومين حضر من جديد طالبا من ثلاثة طلاب البقاء في الفصل وأمر من تبقى بالخروج من المدرسة – بالطبع كنت منهم. لا لشئ، لكن لكوني نسيت ان أطلب من أهلي ليرتين -. خرجت وإذ بجمهرة من الطلاب مجتمعة على باب المدرسة الخارجي وبوابة المدرسة تفتح لإخراجنا..
يومها شهدتُ أول مظاهرة عفوية حقيقية في حياتي.
كان مشهداً أقرب إلى اللعب بالنسبة لي لكن لم يكن كذلك بالنسبة إلى (رغدان) ذاك المخلوق تحول فجأة لشيء آخر لم أعرفه من وجهه الملتهب حماسة يردد ودون كلل (بترول العرب للنهب).. مابقي في ذاكرتي ذاك اليوم أني شهدت بوابة المدرسة الحديدية الثقيلة ملتوية بفعل مقاومة الطلاب الشديدة وسيارات الشرطة تحيط بنا على مفارق الشارع المؤدي إليها.
في صباح اليوم التالي وفي الطريق من جديد نحو المدرسة قرأت على حائط بناء البلدية، هذه العبارة التي لن انساها ابداً: (نريد ماءً نظيفاً وليس بالألوان). مرّت السنوات طويلة بعدها ليعترف لي صديق قديم منذ أيام بأن من كتب هذه العبارة كان (رغدان، ما غيره.. الله يصطفل فيه) وانه كتب عبارات غيرها على جدران الوحدة الإرشادية الزراعية.. وعدة مبانٍ اخرى، فقد كان واحد من النشطاء الفاعلين ضمن من اصطلح الأهالي على تسميته في تلك الأيام (فورة الاولاد الشيوعيين الكلاب!!).
كيف سأصف هذا..؟ يوم وصلتني الأخبار عن ذاك اليوم المجنون في تاريخ بلدتي. يوم رُفع السلاح بوجه المعزين بشاب قتل غدراً على يد مجرم ما، يعمل دون رقيب ودون حساب. كيف أُطلقت لأول مرة الغازات المسيلة للدموع في وسط الساحة وكيف تُرك النعش مرميا على الإسفلت لا يلوي على الحراك وكأنه يثبت الواقعة في عيون الجميع. يومها استفاقت رجولة هذا الـ (رغدان) المشطوبة وفرقت اعقاب رصاصتها الفارغة بحانب النعش تعلن ان لا صوت فوق صوت (الرئيس المفدى). وفي زحمة نشوة العنتريات الجديدة استفرد بفتاة لا يعرفها، امسكها من شعرها ليقودها حتى سيارة الأمن الموجودة بجانب الطريق مع طاقمها الكامل جالسين منتظرين وليُدخلها كرهينة جديدة عند “حماة الديار”
(رغدان)، انت مدين لي بليرتين دفعتهما بدلاً عنك لموجه المدرسة (بدل اشتراك المازوت) لتدخل المدرسة وتتمتع بدفء العلم تحت صورة الرئيس المفدى.. أريدك ان تردّهما لي كاعتذار صغير لتلك الفتاة.