1-
قبل النزوح، لملمت أمي حقائبنا بحزم وقالت “لن أراقب أولادي يموتون أمام عيني”. رتبت نصف المنزل المهدم كما لو أننا ذاهبون في رحلة قصيرة ولم تنظر خلفها. همست وهي خارجة، تحدث أشباحا تراهم وحدها “لا تنسو تسقو الزريعة”. لم أرها يوما أكثر صلابة، لكني عندما تجاوزنا عتبة الدار، سمعت صوت طقطقة خفيفة، كأن قلبا ما قد كسر ..
عندما افترقنا قلت لها:
– لا قدرة لي على الاستمرار، كيف سأجد طريقي في هذه الصحراء؟ ماذا أفعل؟
– لا تموتي، قالت.
وها أنا أحمل الوصية كلعنة. في الليل أحسد اليائسين وأقضم أظافري من رعب الحقيقة ثم اغمغم للأصدقاء كلاماً غير مفهوم عن الأمل وحب الحياة كبائع متجول يقف يوميا في نفس الشارع العام ويبيع قناني رخيصة لترياق سحري يصلح دواء لكل شيء.. جرب هذا يا سيدي يخفف من قسوة الأحبة ويشفي وجع المفاصل.. خذي هذا يا سيدتي، يحمي من العين الحاسدة ويخفف من ثقل الخذلان والحنين للأماكن البعيدة.
السكوت حكمة لا أمتلكها. لوحدي تماما في هذا الربع الخالي بفم شققه العطش، أعيد ترتيب الأولويات.. للحب نصف القلب ونصفه الاخر للهباء. أمشي وأحدث نفسي، لا ترفعي عينك عن الطريق، أقول لها وأحاول فصل ثنائيات لا تفصل. منبوذة على مفترق طرق مكرر ككلام الأنبياء، الى اليمين قد أجد ماء والى اليمين قد أضيع الماء.. لا خلاص.. لكني أشد على خاصرتي وأعض على عصا السراب السحرية وأقول للبعيد، قليلا بعد يا حبيبي، قليلا بعد..
2-
منذ سنة ونصف بدأت تلك العادة القهرية بالظهور، لا شيء خطير لكني لا أستطيع التوقف عن عد جثث الغزلان الميتة على الطريق العام، 368 جثة حتى الأن، عدا عن ذلك أنا بخير هنا في المنفى، لا أشتاق الى ذلك البلد الذي بحجم قبضة اليد ولا يرى على الخريطة الّا بعدسة مكبرة، حتى أن أصدقائي الجدد لا يعرفون بوجوده، أقول لهم بأن الكلام بدأ هناك.. لكن هذا غير مهم اليوم، إذ علينا أن نستمر بالركض..
369.. غزال آخر ميت.. كل شيء غريب قليلا كالعادة كأي كلام عربي مركب بالعافية على لحن أغنية أجنية سيئة. أستمع الى موسيقا راب على الراديو. المغني يتحدث عن ثروته ويشرح بالتفصيل، طريقته الفنية في استخدام قضيبه الكبير، الكبير جدا.. لكن أنا نفسي، لا أعرف الإتجاهات وأحب رائحة العشب المقصوص للتو..
370، الوطن كالحب، وهم إجتماعي. قرأت هذا في كتاب، يتحدث عن إنسان أكثر سعادة وتوازن. أبصق على السعادة، وعلى التوازن..
371، هل تعرف كيف هي الحياة في المنفى؟ عادية تمامًا، لا شيء مختلف، الهواء هواء والسماء سماء، هناك ثقل بسيط في الصدر ينسى غالبًا في تفاصيل الحياة اليومية ككل شيء مهم..
372 … 373 …. 374 ..
الصورة: Martin Parr©
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.