كيف حصلَ ذلك معه؟!. إنَّه شديدُ الحرص، لا يدعُ أحداً يأخُذُ عليه مأخذاً. هل ما سمعَهُ كان زلَّةَ لسان؟!.
لقد تلعثمُ وهو يشرحُ لمديره، عن عدم معرفته وإدراكه لما حصل. فهو الذي أمضى أكثر من عشرين سنة في هذه الخدمة، قضاها رَغم كلِّ أنواع التعاسة والشقاء والحرمان، متمسكاً بشيءٍ وحيد.. وهو النَّزاهة.
“النزاهة” التي رضعها منذُ تَفتُّحِ وعيهِ على هذه الدنيا.” النزاهة”.. عَرِفَ بها ذاك الطعم اللذيذ، وتلك النشوة التي تلامس قلبه كلما تذكرها, فهي ثروتُه الوحيدة في هذا الوجود. كلُّ شيءٍ للآخرين، ونزاهتُه ملكُه وحده، ثروة عمره الثمينة. كم أرقته في ليالي البؤس والحرمان، عندما كان يشدد قبضته عليها، فيخيل له بأنها أشواكٌ معدنية تنغرس في جلده، هل يصرُخ، أم يرميها، أم يَصبِر.؟!. ليالٍ بطولها مرَّت وهو غارق بأفكار، لا يدري بأي مخرجٍ سينجو منها. أتصبح حبيبتُه الأثيرة، مصدر ألمه..؟!
أتنقلُب راحتُه إلى مصدر قلقٍ يؤرق لحظاتَه؟!
ما هذه الدُنيا العجيبة؟! تراكمت كل الفصول المتوارثة من سوء الحظ أمام أول خطوةٍ له في دروب حقوقـِه. نعم “حقوقه”، حقه بقول “لا، ولماذا”. حبيبُته التي يخاف من ذكرها، فكيف له أن يقف في حضرتها المخيفة. كم ارتعدت جوارحه حين كانت تمر بطيفها الأنيق أمام عينيه الحالمتين، حتى يخيل إليه أنه يغمض عينيه المغمضتين أصلاً، حتى لا تدخل منهما إلى تلافيف ذاك الدماغ البارد.
حتى الحروف، لا تريد أن تنصاعَ له في هكذا موقف. الحروف التي انصاعت لأفكار من ملأ الدُنيا، كتباً، وأشعاراً، وثرثرة، كانت مصدراً من مصادر خُذلانه أمام مديره.
صُعِقَ من ذلك الموقف الذي لم يكن طوال عمره الشقي يظن أنه سيواجهه.
– أنت مطرود..
كانت مطرقة من حروف، انهالت على سمعه، فرمت به في عالم ٍ من جحيم.
– أستاذ …أنا …. لم..!
– إخرس، لا أريدُ أيَّ كلمة، سيصلُك استدعاء القضاء بعد أيام.
– سَيْ ….أس.. تا ..!!
– هيا… هيا
خرج من غرفة المدير، والأرض تتأرجح تحت قدميه.
زملاؤه يتهامسون من بعيد، ويرمِقونَه بنظراتٍ، من أسهمٍ نارية محرقة..
– “الناس مخباي بجلدا”
كانت هي المطرقة الأخرى التي حطمت قلبه اليائس.
خرج والعيون تلاحقه، والألسن ترنُ كلماتُها في أذنه؛
ولم يبدد صداها، إلا صوتُ الإنكسار في جمجمته، التي تخاطفَتَّها السيارة والجدار؛
ولم تتلقفه الأرض، إلاَّ.. ومديرُه من المُثريين الكبار….!!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.