الأزهارُ الهامشيّةُ الّتي تفوحُ روائحُ سوائلِها بلذّةٍ عندَ المطرْ
بلا أسماءَ معروفةٍ كانتْ
نَنتَقي لَها ، بعد التِهامِ واحدةٍ من كلٍّ نوعٍ، أسماءً محبَّبةْ ، غالباً ما تكونُ أسماءَ بعضِ “الأكلاتِ الطّيبةِ” التي لم يكنْ أهلُنا يملكونَ القدرةَ على شرائها
التّرابُ أيضاً.. أيُّ ترابٍ قريبٍ
كان يستحيلُ بعدَ المطرِ إلى متجرٍ مجانيٍّ لـ “شوكولا الوحلِ”
نلتهمُ منهُ بالأيدي مباشرةً وسطَ شتائمِ المارّينَ الذين كانتْ ملابسهمْ تشارِكُنا كراتَه الشّهيَّةَ
نطلي بهِ وجُوهَنا والنصفَ الأعلى من أجسادنَا بعد خلعِ “كنزاتِنا”، نُحاكي “الشعوبَ القديمةَ” ونبدأ صيدَ المدنِ:
صَراصيرَ نحقِنُها في مؤخراتِها بالماء المغليّ بواسطةِ “سيرنكاتٍ” مستعملةٍ نجمعُها من قمامةِ المستوصفاتِ الحكوميةْ
سَحالي في ثقوبِ الأبنيةِ التي لم يكتملُ عمرانُها، نقطعُ ذيولَها، نطلقُها تَمشي مترنحةً،
ونضحكُ بلؤمٍ عليها حينَ تجنحُ كسيارةٍ تسيرُ على جليدْ
نُفقدُها التّوازنْ
أوكارُ دبابيرٍ ونحلٍ نغزوهَا بالعصي والموادِ المشتعلةِ، تستمرُ المعاركُ لساعاتٍ وتنتهي بوجوهٍ منتفخةٍ، تأوهاتِ ألمٍ، ورأسٍ من الثومِ نقتسمهُ بيننا، ليفركَ كلٌّ منّا، بحصّتهِ جراحَهْ
رأسُ الثّومِ، كان يسرقهُ أحدُ الفدائيينَ من بائعِ خضارٍ كهلٍ فقدَ معظمَ بصرهِ وعقلهْ
يصيحُ بأيِّ صوتٍ أو حركةٍ يَسمعها باسمِ ابنهِ الوحيدِ الذي قُتلَ مبكّراً بـ “خُطّافِ عتّالٍ” حينَ كانَ يحاولُ فضَّ عراكٍ في سوق الهالْ
كانَ، الكهلُ، طَبيبنا السّريَّ، محارباً قديماً، يذكّرنا وجُوده دائماً، بلعنةِ الزّمنِ الذي سَينتَزعُنا من مَملكتنا هذه يوماً
………………
كلُّ شيءٍ لهُ رائحةٌ طيبةٌ كانَ فريسةً لجوعِنا
جوعِنا الذي لم يكنْ للطّعامِ تحديداً
غامضاً كانَ ككلِّ ما نشعرُ بهِ تجاهَ الكونِ
………………
شَرسينَ
شَرهينَ
توّاقي دهشةٍ وتجربةٍ لأيِّ شيء
أطفالاً في تلكَ الحاراتِ المتراصّةِ كمستودعاتٍ للخيبةِ والمللِ البطيءْ
كلُّ شيءٍ له موسمٌ خاصٌّ ، عندنا
………………
“اللّهمّ إنّي صائم”
في أشهرِ رمضانَ
كانت تُحرّضنا تلكَ العبارةُ على زيادةِ الشتائمِ على بعضِنا، لنُردِّدها،
نُكثر شربَ الماءِ وتناولَ الطعامِ مُدّعينَ “السّهو” لنقولَها
في أشهرِ رمضانَ الطويلِ كمجاعةْ
لنقتلَ الوقتَ البطيءَ، ريثما يحينِ الإفطارُ على صيامنا المزيّفْ
يجتمعُ أطفالُ جميعِ الحاراتِ في أكبرِ حديقةٍ في المنطقةِ،
وتبدأ بطولاتُ رمضانَ الذي تحوّل إلى صديقٍ مقربٍ للجميعِ يدعى رمضان الصيفيّ :
تراقبُ الأرضُ، فيهِ، السّماءَ من أوكارِ النّملِ
نملٌ صغيرٌ، نملٌ كبيرٌ ، نملٌ مجنّحٌ
جميعهمْ سيخوضونَ المعاركَ والرهاناتِ التي تنتهي بيينا كما بينهمْ، بالشّجارِ والدماءْ
الكراتُ الزّجاجيةُ الصّغيرةُ الملوّنةُ الّتي كنّا نَدعُوها “دحاحل أو كلول”،
نبدأ كالخلدِ صُنعَ الحفرِ في جسدِ التّرابِ لنلعبَ بها
يبدأ قذف الكراتِ على بَعضها ونحو الحُفرْ،
لا أحد يربحُ معظم الأحيانْ تصيرُ الدحاحلُ ذخيرةً للمعارك والشجاراتِ التي تتلو كلَّ لعبةْ
اللّعبُ بصورُ الرسومِ المتحركةِ التي كانوا يضعونها مع علكةٍ لا تصلحُ إلا لنحاجرَ بعضنا فيها أيضاً،
أو نعلكها قليلاً ونلصقها في أيّ مكانٍ عامٍ يصلحُ للجلوسِ، أو على شعرِ الفتياتِ الصّغيراتْ
كلّ شيءٍ موظّفٌ ويسيرُ بخطىً خفيّةٍ نحو العراكْ
كنّا نختلقُ جميعَ الألعابِ لا للتّسلية، بل لنخوضَ المعاركَ بعدَها ونجرّبَ الألمَ باكراً
كنّا أطفالَ غاباتٍ، ولِدنا بخطأ وجوديٍّ في المدنْ
………………
الحديقةُ العامّةُ الصغيرةُ نسبياً، حديقةُ حارتِنا،
حديقَتنا التي خلعنا شجيراتِها من الجذورُ ورميناهاَ على أبوابِ البيوتِ لنلعبَ فيها كرةَ القدمْ
كانتْ مركزَ العمليّات الرئيسِ لنا
وخاصّةً طقسَ الحرائقَ الشّهريةْ
يدّخرُ كلٌّ منّا، شهريّاً، مصروفَ أسبوعٍ كاملٍ، لنشتري علبَ “شُعلةٍ” تكفي مئةَ محلٍّ لتصليح الأحذيةْ
نجمعُ في منتصفِ حديقَتنا “زبالةَ” حارَتِنا والحاراتِ المجاورةِ لها، على مدى ثلاثةِ أو أربعةِ أيّامٍ متواصلةْ
جبلاً من الروائحِ الغريبةِ، يمتزجُ فيها الآسنُ معَ الطّيبِ،
ليعطي رائحةً ليست بالزكيّة، لكّنّها محبَبة لأنُوفِنا
وحين يحينُ الّليلُ،
ليلٌ لا قمرَ فيهِ
نسكبُ نصفَ عُلبِ “الشّعلة” على “جبل الحقيقةِ” كما كان بعضنا يحبُّ تسميتهْ
والنّصفَ الآخرَ يمتدُّ من الجبلِ فتيلاً طويلاً بين عشراتِ الحاراتِ على طولِ كيلو مترٍ أو أكثرْ
يقفُ نِصفنا في منتصفِ المسافةِ بينَ الفتيلِ والجبلِ،
ونصفٌ على أسطحِ الأبنيةِ الأقربِ إلى الجبلِ، مُسلّحينَ بـ”النقيفاتِ” و”بوالينَ” مملوءةٍ بالبولِ والترابِ ، لاستقبالِ رجالِ الإطفاءِ عند قدومهمْ وإعاقتهمْ عن إخمادِ حَريقِنا
و”الصّاعقُ” يكونُ عند نهايةِ الفتيلِ ينتظرُ إشارة البقيّةِ ليُشعِلهْ
و”الصّاعقُ” واحدٌ منّا، يُحرمُ من مشاهدةِ لحظةِ اشتعالِ الجبلِ، لذا كنّا نتبادلُ بشكلٍ دوريٍّ هذه المهمّةْ
تنطلقُ الإشارةُ، “صاروخُ ألعابٍ ناريّة”، في الهواء،
وتنطلقُ مع انفجارهِ في عتمةِ الليلِ أرجُلنا،
ركضاً بجانبِ خطِّ النارِ المشتعلِ بسرعةٍ، مع عواءاتٍ هستيريّةٍ تُنبّهَ جميعَ أحياءِ المنطقةِ بخطرٍ قادمْ
نَصلُ إلى الجبلِ مع نيرانِ الفتيلِ تماماً
ودائماً،
كما كلِّ مرّةٍ، نقفُ بدهشةِ وبلاهةِ المرّةِ الأولى، أمام الاشتعالِ الفجائيِّ لهْ
سحبٌ سوداءُ تُهاجم نوافذَ الحيِّ وسط رقصٍٍ هستيريٍّ ودورانٍ بدائيٍّ، لنا، حولَ النّارِِ
“هذا عقابُ الجميعِ على رميهمْ مهملاتِهم في الطرقاتِ ”
هكذا كنّا نبرّرُ لأنفُسنا فِعلتَنا هذهْ
آلجميعُ يلتزمُ البيوتَ وينظرُ من خلفِ ستائرِ النّوافذِ، كأنّها الحربْ
إنّها الحربْ
تبدأ أصواتُ سياراتِ الإطفاء بالوصولِ إلى أسماعِنا،
ستبدأ المعركةَ قريباً
قناصو “النقيفاتِ” وقاذفو البوالينِ البولية على سطوحِ البنايات يتأهبونَ للإطلاقِ
كنّا نحتاجُ جيشاً حقيقياً بكاملِ عتادهِ لإيقَافِنا،
لكنّنا كنّا نتوقفُ طوعاً بعدَ أن تنتهي ذخيرةُ الأسطحةِ، ويصبحُ جبلُ النارِ حريقاً صغيراً نتركهُ لرجالِ الإطفاءِ لنشعرهمْ بنشوةِ نصرٍ زائفْ، بعد أنْ نالوا حصتهمْ من الحصى والبوالينْ
ثمُّ يذهبُ كلٌّ منّا إلى بيتهِ
لتلقّي عقابهُ بفخرٍ ونشوةْ
تعليق واحد
تنبيه المشاركة عنِ الحاراتِ الضيّقةِ حينَ كنتُ حيّاً – فَجْوَةْ
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.