نهايةَ الشهرِ الماضي وحين كنتُ امارس عملي كعامل نظافة أو “كزبال” كما يدعونني في غيابي، عثرتُ داخل المكبِّ على فانوسٍ أثري. على الفور بدأتُ بشتمِ الأغنياء البطرانين. أيّ مجنونٍ قد يرمي قطعة أثرية؟!، سأنظفها وأبيعها. لن يكون ثمنها أقلّ من ثروةٍ لجائعٍ مثلي. وكما في القصص الخرافية حين فركتُ الفانوس خرج الماردُ الأزرق منه وقال لي: لديك ثلاث أمنيات. تمنّاها ولا تضيّع وقتي.
– ولكن ألن تقول لي: “شبيك لبيك عبدك بين ايديك”؟
– أقولها فقط حين أكون ثملاً أو تحت تأثير مخدّرٍ ما.
– أأستطيع أن آخذ وقتي بالتفكير؟
– لدي كل الوقت الذي تحتاجه فأنا عالقٌ هنا منذُ الأزل. لكن لا تفكر أن تتمنى عودة فلسطين، أو انتهاء الحرب في سوريا أو العراق أو السلام العالمي، أو انتهاء المجاعة، عليك أن تتمنى أموراً تخصك وحدك.
على الفور عاد المارد إلى داخل الفانوس الذي خبأتُه داخل كيس النفايات وأسرعت إلى منزلي. في المساء وبعد طول التفكير حول أمنياتي، توصلت إلى حقيقةٍ مزعجة أنّ هناك بشراً يملكون السلطة والمال والنساء والعافية،
لكنهم ليسوا سعداء. وأنا لا أملك شيئاً ولست سعيداً. المشكلة إذاً في كوني خُلِقتُ على شاكلة البشر. المشكلة في البشرِ أنفسهم. ولهذا اتخذت قراري الذي لا رجعةَ عنه: ستكون أولى أمنياتي أن أنشقًّ عنعالم الادميين هذا واصبح حمارًا…
نعم سأصبحَ حمارًا. فلطالما أعجبت بالحمير ككائنات لطيفة ومسالمة، وتعملُ دون كللٍ أو ملل ومع ذلك تعيشُ حياةً سعيدة. مجتمع الحمير مثالي، هم لا يملكون رؤساءً أو أحزاب، ولا تقطع الفيالق الدينية أو الجيوش “المتحضرة” رؤوسهم. الحمير لا تتشرّد في أصقاع الأرض بحثاً عن لقمة العيش أو المأوى أو الحب أو لتبحث عن ذاتها. الحمير ببساطة كائنات سعيدة.
حسمت أمري. سأصبح حماراً. هذه أولى أمنياتي. يا لها من أمنية!. سأخبر بها مارد المصباح الذي سيحولني إلى كائنٍ سعيد. سأبدأ بالتحول. سينمو لي ذيل وتطول أذناي، ويحتلّ وجهي أنفٌ كبيرٌ مضحك، وسأمشي على أربعة ككلِّ أخوتي الحمير. سأشرب قهوتي على الشرفة بهدوءٍ مع صديقتي الحمارة، ولن نتحدث في أمور السياسة أو الدين. لن نتطرّق حتى لمن كان يستحق جائزة نوبل للآداب أو من سيفوز في كلاسيكو إسبانيا لكرة القدم. ستقول لي قبلني وسأقبلها على مرأى من جميع الحمير دون خوف من عيب أو حرام، ومن دون أن يشتمنا أو يرجمنا أحد.
أخبرتُ مارد المصباح بأمنيتي. تكاثف البخار على وجهه الأزرق. بدا شارداً وهو يمسّد لحيته الزرقاء، وأنا أراقبه بهدوء. بعد طول انتظار نطق: أنا أعيش في هذا المصباح منذ آلاف السنين ولم يسبق أن طلب مني أحدٌ أن يصبح حماراًّ، لماذا لم تطلب المال أو الحب أو مقام الرئاسة؟
– وهل كان أولئك الناس سعداء؟! أنا أريد السعادة!
– لا لم يكونوا سعداء، ولكنهم لم يكونوا حميراً. ستكون تجربتي معك مثيرة، ولهذا فطلبك مجاب!.
وتحوّلتُ بلمح البصر إلى حمارٍ يركض فوق المروج الخضراء. لم أكن أعرف أنني أحب العشب إلى هذه الدرجة. أكلت وأكلت ولم أشبع. يا له من نهارٍ سعيد، يا لها من أمنية ذكية!. لكن هناك شيء أحببته أكثر من العشب، تلك الجزرة التي لاحقتها طوال اليوم، وكلما اقتربت منها هربت، يا إلهي كم كانت تلك الجزرة مكارة. وفي المساء أتى مالكي وأطعمني إياها. لولا تدخله الطيب لما كنت أكلتها ونلتُ هذه السعادة التي تغمرني الآن.
لم تتسع الدنيا لفرحتي وأنا أخبر صديقتي الذبابة التي تعيش معي في الحظيرة. لكن تلك الذبابة القذرة سلبت مني الفرحة حين نبّهتني إلى أنّ الجزر لا قدرة لهُ على الركض والهروب من الحمير، وأنّ مالكي دلّى تلك الجزرة أمامي عبر سنارة صيدٍ لأمشي وأمشي إلى المكان الذي يريده.
قفزت عن الأرض غاضباً. ما أقسى البشر وما أحقرهم وما أغباني! نعم أنا غبي كيف لم أنتبه أنّ الحمير كائناتٌ غبية حين طلبتُ أن أصير حماراً؟! لكنّ الذبابة الحكيمة أوضحت لي أنّ حالي ليس أسوأ من حال البشر الذين يركض كلٌّ منهم خلف جزرته. البعض يسمّيها الراتب الشهري، وآخرون يسمونها النصر، وغيرهم يسمّيها الحور العين…
– وأنتِ يا صديقتي الذبابة: ما هي جزرتك؟
– أنا أكرهُ الجزر!.
الحل إذاً أن أصير ذبابة سأصبحُ قادراً على الطيران، يا إلهي الطيران!. أحب الطيران، ولكنني لا أريد أن أصبحَ نسراً أو صقراً لأكون هدفاً سهلاً للصيادين.
وجدتها: سأصبح ذبابة تتخفّى متى تشاء، وتستمتع بإزعاج البشر كلما سنحت لها الفرصة… سأطير لم يبقَ على هذه الأرض ما يستحق الحياة…
أخبرت مارد المصباح بقراري، ولم يتفاجأ كما في المرة الأولى، تمتم ببعض كلمات تشبه الشتائم، لكنني اكتشفت فيما بعد انها تعويذة لتحويلي. صرتُ ذبابة. وصرت أرى الأشياء أجمل. لو أنني ملكتُ هذه الرؤية وأنا بشري؛ فلربما أصبحت فناناً ولم أصبح عامل نظافة. طرت ولم أصدق أنني أطير. يا له من نهارٌ سعيد! أنا أطير وتصدر أجنحتي أصواتاً مضحكة. كنت أغني وأضحك وأنا أسمع هذه الأصوات المثيرة للسخرية. لكنّ فرحتي لم تكتمل. ما أن ارتفعتُ عن الأرض حوالي المتر، حتى امتدت يدٌ لتسحقني وتلصقني بالحائط. لم أمتْ، لكنني لم أعد أعرف أين أحشائي و أينَ أجنحتي…
لم أطلب أمنيةً أخرى على الفور لأنه لم يتبقّ لي إلا أمنية أخيرة. ولكن التصاقي بالحائط أوصلني إلى حقائق كثيرة: سخرت من نفسي حين كنتُ بشرياً أشبّه الأغبياء بالحيطان. لم يكن ذلك الوصف دقيقاً. فالحيطان، على عكس ما يُشاع عنها، تملك أحاسيس الحزن والفرح. والحيطان ترقص وتقفز وتطير وتقع. للحيطان آذانٌ وأفواه تسمع وتتكلّم (لا كما المعنى المتداول داخل الديكتاتوريات). والحيطان تنتظر إلى أن يفرغ البيت من أصحابه حتى تبدأ حفلاتها المجنونة.
في إحدى المساءات فرّ البشر من البيت حين سمعوا وقع أقدام بشريّةٍ عدوّة قادمةٍ لذبحهم. وأخبر الحائط الخارجي بقية الحيطان أنّ البشر قد ابتعدوا. عندها انحنى إليَّ الحائط الذي سُحِقتُ عليه وقال بهدوء:
– “لا تصدق أن البيوت تموت حين يهجرها سكانها”. البشر هي التي تموت حين تهجرُ بيوتها.
– ولكن البشر، على الأقل، لا يلتصقون بالحيطان!
– ومن الذي أخبرك بهذه المعلومة؟. في الحقيقة قد يلتصق البشر أيضاً بالحيطان ويتعجنون كالذباب على أيادي بشرٍ آخرين. وأبشع منه الالتصاق بالسجن أو المعتقل، أو بمخيمات اللجوء التي تعتقل البشر لسنين دون أن يدركوا، أو أنهم يتظاهرون بعدم الإدراك.
وأنا أستمع إليه، ورأسي يعصف بأفكارٍ حول أمنيتي الثالثة. لماذا يتناسى البشر هذه الحقائق؟، لماذا هذه الأفكار خالدة وسط البشر؟، ونقيضها خالد وسط الحيطان والذباب والحمير؟ المسألة تعتمد على الزاوية التي ينظر بها كلّ منهم إلى الحقيقة.
الحمير.. البشر.. الذباب.. البيوت الأوطان؛ كلها تموت وتبقى أفكارها حيّةً تتصارع.
هذه المرة سأختار أمنيتي بعناية. ستكون أمنيتي الأخيرة أن أصبح وجهة نظرٍ مكتوبة أو مسموعة أو مدفونة داخل مخيلةِ كاتبٍ مجنون، وجهة نظرٍ لا يمكن أن تُسحقَ أو تُقتَل، ولا تكون أحد طرفيّ صراعٍ من أي نوع. وجهة نظرٍ خالدة رغم القول السائد بأنَّ زمان الخلود قد انتهى.
الصورة: ICHIRO, Getty Images
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.