حال السويداء اليوم كالمنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى..
ليس في الجعبة شروحٌ كثيرة… ما قد يكتب الآن لا أكثر من فضفضة. فالواقع حولنا صريحٌ (كالحب والحبل وركوب الجمل…)، ولا يحتاج ذو البصيرة لرؤية هذه البانوراما التعيسة لا إلى فوكوس ولا فلاش ولا حتى مكبّرة بدائية…
لا يبدو أنه على امتداد الجغرافيا السورية كلها وضع شبيه بما آل إليه وضع هذه المحافظة الجنوبية النائية بين حدود الأردن والصحراء، ومن المضحك التنويه إلى أنها صغيرةٌ وضعيفةٌ وفقيرة، وليس لها من مقومات الدولة ولا حتى حدودها الدنيا. هذا في واقع الحال الذي تستقوي فيه الطائفية على الانتماء الوطني، وفي ظل استلاب المرجعية الدينية الدرزية، وعجزها عن حماية الأهالي كما يمكن لمرجعيات الطوائف الأخرى أن ترعى مجتمعاتها..
في الامتداد الشعبيّ الأفقي، لا يريد أهلها أن يغيّروا قناعاتهم بأنّ: أيّ بديلٍ أسوأ من النظام الحاليّ. فتغيير القناعات مكلفٌ، وهم ليسوا مستعدين لتبعات التغيير. التسليم بقناعةٍ مريحةٍ للضمائر الخاملة أنّ النظام أفضل من داعش أقلّ كلفةً بكثيرٍ من إعمال العقل. هذا التسليم يثلج الصدور ويوافق موضة الحرب ضد الإرهاب، ويرسّخ في أذهانهم وحدهم أنهم منذ بداية الثورة كانوا على صوابٍ في النأي بأنفسهم عن هذه المواجهة السنية العلوية. وحتى بعد أن صارت سوريا ساحة لإنجاز الصراعات الإقليمية والدولية واحترق البلد حقاً ولم يرحل الأسد، فهم حتى الآن لا يريدون أن يقتنعوا بأن أحداً من السوريين لن ينجو، وإن نجت فرقةٌ ما من شدق الزلزال، فلن تنجو أبداً من ارتداداته..
على امتداد المحافظة فلتان.. أيام حشرٍ تتكرر ولا تنتهي.. الناس مستنزفون بتأمين الرغيف (حتى هذا الرغيف صار ينضج على طعم الخميرة الإيرانية، وكأن لا خميرة وطنية قادرة على أن تشبع الناس).. ندرة الأدوية، وحلول الأدوية الإيرانية مكان المفقودة، طوابير الدور على المحروقات، الغلاء الصاروخيّ مقارنةً بالدخل الركيك، بل المزري، لعامة الناس، الكهرباء المقطوعة التي أفظع من انقطاعها أن تأتي الفواتير جهنميّة، قد تساوي الواحدة منها راتب موظف حكوميٍّ متوسط، مع أنه ينشغل طوال الوقت بتقنين مصروفه من الضوء والدفء والرفاهية ولا يسمح بالسؤال لماذا ولا يشفع الاعتراض بتأخير تشميع العداد وقطع التيار عمن لم يستطع الدفع، ثم إن التيار يأتي شديد الضعف، فتحترق اللمبات والأجهزة والوصلات مع كل وصلٍ وفصل.. ينكفئ الناس في بيوتهم مع حلول الظلمة، لا أمان إلا في البيت، ولا يسمح أفراد البيت الواحد لأنفسهم بالخروج منه جميعاً، على أحدهم أن يبقى فيه لحراسته من مشروع سرقةٍ قائمٍ في كل وقت.. وفي البيت بردٌ في الشتاء وحرّ في الصيف، لكنه أفضل من الخيام ومن العراء.. هكذا يعزّون أنفسهم، وتستمرّ حيواتهم الأقرب إلى شدّاتٍ متتاليةٍ ومتظافرةٍ بحيث يدوخ الشخص قبل أن يحسم أي الشدّات أكثر خطراً عليه من غيرها.. هذا قبل الحديث عن الجوع.. لم تعد نكتةً أن يقول الأب لابنه: أنت أكلت أمس، اليوم دور باقي أخوتك..
إنه زمن شذّاذ البلد، الذين صاروا أعلاماً تعلو فوق رقاب الخلوقين. الأوادم انزووا في بيوتهم احتراماً للمقولة الثمينة: هؤلاء لا يمكننا مواجهتهم، (يستندون في سلوكياتهم الوسخة على شرفنا نحن وقلّة شرفهم..) عرباتٌ غزت الساحات والطرق الرئيسية فلم تترك حيّزاً لتمرّ فيه سيارة صغيرة من غير أن تصطدم بحواف العربات، أماكن بيع الحشيشة وتعاطيها صارت معلومة لكل راغب، الطرقات والأزقة الفرعية والمحلات التي افتتحت حديثاً من أجلها عامرة بها.. كذلك عشرات القهاوي المشبوهة التي لا تشبه واجهاتها المعتمة والمغلقة أكثر من بيوت الهوى غير المرخصة.. هذا غير بيوت الهوى التي بضاعتها النازحات الغريبات عن المكان والأمهات الجائعات هن وأبناؤهن اليتامى، المتروكون لأشنع مصير، وفي وصف كل ظاهرةٍ يعلم الجميع أن ما خفي كان أعظم..
ضباط النظام حملوا عائلاتهم وغادروا إلى مدنهم الساحلية، كتائب الجيش رُحّلت من المحافظة منذ أكثر من عام وأوكلت الحماية لجماعات الدفاع الوطني المتشرذمة هي الأخرى، والمنشغلة بغنائمها الحلال.. هؤلاء لا يرضى واحدهم حصيلة يومه أقل من مائة ألف ليرة سورية ولا يرضى أن يدخن سوى المارلبورو (ثمن العلبة 800 ليرة يعجز عن تدخينها الطبيب أو المهندس أو أستاذ الجامعة…). رزقتهم من تهريب كل شيء. المازوت والبنزين من داعش في شرق المحافظة إلى الإرهابيين في درعا.. يبيعونهم تنكة المازوت بعشرين ألف ليرة كحد أدنى، وقد تصل إلى خمسين ألفاً..)، والرشاش على أكتافهم لم يوجه يوما لعدو، وتوجّه كثيرا للأخوة وأبناء العم والجيران بعد أي شجار تافه..
مالك إحدى الكازيات غدا مليونيراً من إتجاره بالمحروقات وبيعها إلى الإرهابيين، وأضاف إليها تجارة السلاح منهم وإليهم وإلى الأهالي، ومكّنته ثروته الطارئة، ولا ميزة سواها، من الارتقاء ليصير وجيها بارزاً وواحداً من أعضاء الوفد الدرزي الذي قصد إيران في زيارته الأخيرة البريئة والودية
كل من حاول دخول المتحف الوطني واجه عند بابه منعاً من جنود لهجتهم علوية، يبادرونه بالقول: المتحف يخضع الآن للترميم… يقال أن مقتنياته صارت في طرطوس.
مخازن القمح أفرغت وراحت إلى جهةٍ مجهولة..
شهادات موظفي المصارف جميعهم تقول أن المصرف المركزيّ طافحٌ بصناديق من العملة السوريّة الورقية المنكوبة في قيمتها الفعلية، لم يعودوا يعرفون كيف يمكن تكديسها أو إحصاؤها، وليس فيه ولو مائة دولار أو يورو حتى من الإيداعات الفردية لـ (المواطنين)..
لا أحد يعلم من أين تفيض الأموال في هذه المدينة، ولا ماذا يراد لها أن تصير. تنبت فيها بناياتٌ جديدةٌ كالفطور السامة بين العشيّة والضحى، طوابق هائلة الارتفاع يؤكدون أنها محصّنة التخطيط ضد الزلازل والهزّات الأرضية.. بنايات لا تزيد المدينة إلا قبحاً كأن عقلاً فائق الذكاء وحاقداً وخبيثاً يرسم لهذا البلد اشنع أشكال القبح.. لا أحد يصدّق أنها مرخّصة، ولا أحد يعلم إن كانت مرخصةً حقاً أم لا.. وهل تشرف البلدية حقاً على تخطيطها وتنفيذها؟! هذه البلدية التي لم تنجز، ولو من باب الحياء، أبسط مهامها في تنظيف الساحات الرئيسية من أوساخها أو تحرير مخالفةٍ نظامية لخطأ مروريّ يقلع العين، لكنها تغزو المكاتب والبيوت لتأخذ جبايتها من الناس بالصرماية وتكسير الرأس.. ساحة المحافظة أمام مبنى السرايا تنام في العسل.. أمامها حواجز الاسمنت بينها وبين الناس وداخل الحواجز سياراتٌ مفيّمة فيها أشباه بشر: عمالقة الأجسام، حليقو الرؤوس لابسو المموّه يحرسون الوفود الغزيرة الوافدة من سائر الدوائر الحكومية للتهنئة بالأعياد البعثية.. عناصر حزب الله السوريون أسياد شارع الشعراني والحواجز في قلب المدينة.. لكل واحدٍ منهم جماعته التامة الاستقلال عن غيرها .. كلّ الحواجز لم تهدف إلا إلى أن تكون مرصداً لتسليم الشباب الفارّين من خدمة العلم، ومن يضبط يساق بمهانةٍ وبلا شفاعة، وكأنه عدوٌّ شخصيّ لهذا الذي يسوقه…
داعش على امتداد الحدود الشرقية والشرقية الشمالية.. والناس محشورون بين همجيتهم ووحشية الفروع الأمنية وسفالات الدفاع الوطني. حدثت عدة اشتباكات ترقى إلى صفة المعارك.. الأهالي أعطوا إحداثيات المقاتلين الملثمين لفروع الأمن وللجان الدفاع الوطني.. كلهم يقولون: لا أوامر بالاشتباك معهم.. وحين دخلوا القرى لم يدافع عنها سوى أبنائها.. ماتوا ببساطة في معارك لن يكون لها أبداً أن تكون متكافئة.. الكثرة غلبت الشجاعة والسلاح الأثقل لا بد أن يغلب أسلحة الأهالي الفردية البائسة..
أحد الطيارين خرج من المطار العسكريّ بحمولة قذائفه ليقصف بها درعا، تواصل مع قيادته في طريق الذهاب، أخبرهم أنه يرى تحت مرماه تماماً رتلا سميناً للإرهابيين سيارات وحاملات مدافع تسير تحته، يمكنه أن يقصفها حتى الإبادة، ويبقى معه من الذخيرة ما يكفيه للوصول إلى درعا وقصف كامل الإحداثيات التي كُلّف بتدميرها دون نقصان. أمروه بعبارة واحدة: ما دخلك. كمّل طريقك إلى مهمتك…
لا علائق وثيقةً وراسخة وكافيةً لتربط السويداء بحوران، لا أحد ينتبه إلى أن العمق الحقيقي للجبل يكمن في السهل الجار، هذا بحكم إحكام الطوق حول دمشق واحتمال إغلاق الطريق الواصلها بالسويداء، وفي ظل وحشية الحكومة التي بدأت بتجويع الناس قبل قصفهم أو تفليت الدواعش الداخليين والخارجيين عليهم..
قطع طريق الشام لثماني وأربعين ساعة فقط كفيلٌ بشلّ الحياة في الجبل
هذا وبعد أن هاجرت العقول بعضها بوجه حقٍّ وآخرون استغلوا الظرف ليحوزوا جنسية غربيّةً محترمة… حمى الهجرة انتابت الجميع فلم يبق سوى الانتحاريين الذين اختاروا البقاء في البلد رغم فظاعة الحال، وسوى الجموع المنكفئة على بؤسها وموتها الجماعي الذي يغدو وسط الجماعة رحمةً فائضة..
الجميع كامنون راضون بدور المتفرج يغريهم الأمل أننا الفرقة الناجية، وأن هذه الأرض محروسة شخصياً من الله الذي ينحاز حتى هذه اللحظة لنا.. وما طال غيرنا لن يطالنا؛ نحن أصحاب مرقد العنزة..
يتنادى الناس اليوم بكرامات المشايخ، يعرفون بالحدس أنهم وحيدون فيلوذون إلى الإيمان بأن المشايخ مسلحون وأنهم لن يتوانوا عن حماية الأرض والعرض في معارك مرتجلة يسقط فيها الرجال في مكانٍ ذكوره أقلّ من أن يحتملوا خساراتٍ قاسية في العدد.. نداءاتٌ استغاثات تضرّع: سلحونا.. سلحونا.. ترى هل يكفي السلاح في غياب أدنى استراتيجيةٍ أو حتى تكتيك؟!
وكانت أصواتٌ خافتةٌ وخجولةٌ وحييّةٌ وخائفة، تعلو من حينٍ لحين، لا يكاد يسمعها سوى أصحابها؛ أننا صرنا في حالٍ خارج حسابات النظام وخارج حسابات المعارضة…
قد يفطن أهلها، أخيراً، بعد أن (طلعوا خازقين من كل شي…) أنّه إن نجا أحدٌ من الزلزال السوريّ، فلن ينجو من ارتداداته. على امتداد التاريخ لم يختر أهالي الجبل سوى الانتماء للوطن السوري؛
يبدو أنهم غافلون اليوم عن أي رهان
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.