التَّوْطِئَةُ *
قبل ذلك اليوم، عندما شُغِلت القرية بطلقات الرصاص تئزّ ناحية هضبة المتولّي، ما كان العساكر يقدمون إليها إلاّ نادرًا وبأعداد غير كبيرة ليجبوا في ساعات معدودة الضريبة التي يرتأونها، فترحل عرباتهم ملأى، وقد يتبعها أحيانًا بعض شباب الضيعة المجنّدين قسرًا إذا ما تطلّبت ذلك مجازر الامبراطورية الموزّعة في أنحاء شتى، ما جعل بعض عظام الضيعة تفنى عند أبواب فيينا وفي اليمن وفي القريم، بين نواح أُخَر. وكان أولئك البؤساء من أبناء الفقراء دومًا، لأن آل واسطي العال والجبراني كانوا قادرين على دفع ما عُرِف فيما بعد باسم البَدَل، أو يحسنون، بتعبير آخر، إرضاء الآمر، فللآمرين مع الفساد صلة رحم لعينة ما دامت الجِيَف.
وكانت تلك الزيارات البغيضة رديفة للقلق والخوف عمومًا، فذلك الذي يتوانى عن الدفع – لعجزه أو لنبل التمرّد لديه – يتعرّض للفلقة العامة التقليدية ثم يجرّ لزنازين بعيدة لا رجعة منها عمومًا، أو يُقتَل إن تمادى ويُحرق بيته لترهيب الأهالي ومن تسوّل له نفسه الذود عن كرامة كيانه، وتلكم من ملغيات المتسلّط المناوب ومنكرات قاموسه.
لم يطل تساؤلهم، وقرّر الرجال بثقة لنسائهم وأولادهم الواقفين دومًا خلفهم في الحقل “بين العساكر وقطّاع الطرق”. أمّا عبد القهار واسطي العال فكان أكثر فضولاً، ولقربه من الهضبة راح يقترب بحذر ليرقب آدميًا يهبط السفح راكضًا باتجاهه.
أقعى خلف جدار طينيّ يحدّ بين ملكين وبرقت عيناه من خلل ثقب فيه. بانت لحظتئذٍ على رأس الهضبة نقاط سوداء تنتشر وتنمو كأسنان مشط، وقلّص رقبته مخفضًا رأسه بعفوية عندما شعر ببعض الطلقات تنغرز في الأرض بالقرب منه، وبشيء من الزهو ودون أن يشوبه قلق وجد نفسه يبادر الرجل المربوع الذي قفز الجدار غير بعيد عنه:
يا صاحب!
وأكمل دون أن ترهبه الفوهة التي وجّهها الرجل صوبه:
تعال! بسرعة!
وأسرع مقوّس الظهر محاذيًا للجدار إلى الجهة الأخرى. لم يتأخر الغريب عن اللحاق به لاهثًا، وقبل نهاية الجدار الذي يخفيهما عن أنظار العسكر قفزا إلى ساقية عمّقتها الأيام وتابعا حبوًا إلى أن بلغا حقلاً من الذرة أطفأ الغبار بريق أوراقه.
كان عبد القهار قد قرّر: “في البئر”، وبدأ لهاثه بالارتفاع وهو يلعن ضرورة الركض كالمقرفص. سرعان ما انقشعت من حولهم نباتات الذرة فتوغلا في دغلٍ من أشجار السمّاق البعلية، بينما استمرّ العسكر بإطلاق نيران بنادقهم صوب الامتداد الأخضر أسفل الهضبة.
انطرحا في مكمن جوّف أسفل البئر وراحا يلتقطان أنفاسهما. تلاقت العيون لحظتها فابتسم عبد القهار بين صعود وهبوط قفصه الصدري وقال متقطّع الأنفاس:
ما رأيك؟
كان الآخر يتفحصه كمن ينظر إلى حيوان غريب، أدار طرفه حوله بعد أن اعتاد عتمة المكان ثم انحنى ليستطلع قعر البئر، فقال عبد القهار:
لم أبلغ المياه بعد.
قال الهارب هازًا بندقيته وكأنه لم يسمع كلمات مضيفه:
لولا كثرتهم لكنت دبّرتهم بهذه !
اسمي عبد القهار. قال مادًا يده. التقطها الآخر بكف ضخمة:
يسمّونني “الولعة”.
ابتسم عبد القهار:
اسم على مسمّى.
لكن الولعة لم يأبه للإشارة وسأل:
ألن يجدوا المخبأ ؟
لا أظن. – وأضاف مرتّبًا على كتف الآخر: – في أسوأ الأحوال سيرمون بعض الحجارة.
عندما تناهى إلى سمعيهما أصوات العسكر المقتربة انتفض الولعة قائلاً:
أفضّل الموت على وجه الأرض!.
كان منفعلاً، لكن عبد القهار أمسكه من تلابيبه وهمس له:
هس! خفّض صوتك!.. لن يكتشفوا شيئًا. ثم التصقا على جدار المكمن عندما اخترق وابل من الرصاص الفراغ الأسطواني ليصطدم في قعر البئر.
مكثا جامدين وما لبث أن ابتعد العسكر وهم يتصارخون. وصلت أسماعهما من الكلمات: “شيطان” و “ابن القحبة”.
كان الولعة مربوع القامة، طويلاً، انسدلت من صدغيه جديلتان فاحمتان على عادة البدو، وكان وجهه شبه مخفي تحت شاربين ضخمين اتصلا مع لحية كثّة . على عنقه كوفية سوداء كالحة، كسائر ملابسه عدا قميصًا ترابيًا مهتريء القبّة. كانت عيناه الضيقتان ملتصقتان بحماية حاجبين عريضين. كان لون عينيه يشذّ عن بشرته المحروقة وسواد شعره، إذ كان أزرق مشوبًا بالرماد. شغل ما تبقى من صفحة الوجه جبين ضيق وبروز عظام الوجنتين وأنف معقوف كبير المنخرين. أما الفم فقد غاب وراء الشاربين.
إلاّ أن عينيه كانتا على شيء من الجمود، فعند التحدّث تقوم حركة الحاجبين بالتعبير.
استلقى الفتى عبد الوهاب واسطي العال على الأرض وعلّق رأسه في فراغ فوهة البئر. أحسّا بذلك قبل أن يصل سمعيهما نداؤه:
لقد رحلوا.
رفض في البدء دعوة عبد القهار، لكنه رضخ فيما بعد لمعدته المنكمشة.
في الطريق، روى لهما عبد الوهاب كيف ضرب الشاويش أحدهم بالسوط على وجهه لأنه سكت عندما سئل عن الفار، وأن الحلاّق يداويه.
كل من صادفاه حيّاهما بحرارة، حتى أولئك الذين تصلّبت خواصرهم من كثرة الانحناء لالتقاط الحشائش وجدوا العزم فاستقاموا ورفعوا أذرعهم. أحسّ الأهالي ضمنًا بشيء من الفخر لوجود الولعة بينهم، فالتمرّد يحظى باحترام المقهور أو ذلك الذي توانى اعتيادًا.
كان الولعة مندهشًا بعض الشيء، وسرّه أن يتلمّس في وجوه الناس رياحًا ما، رغم الخمود.
تجنّب دومًا الالتقاء بالبشر لأنه سئم فرارهم مذعورين تاركين يده الصديقة معلّقة. لذا أدهشه أن يرحّب به هؤلاء. جال في خلده: “أحد أمرين، إما لأنهم يجهلون من هو، أو لأن شيئًا يمكن أن يُفعل”.
لم يدر لحظتها أنه يحوم حول بركة راكدة لم يغضن صفحتها حجر منذ قرون.
أقام ثلاثة أيام عند آل واسطي العال، ثم قَبِل أن يستضيفه آل الجبراني يومه الرابع، إشارة منه إلى توافقه مع الجميع، فنصف ساعة من الحديث تكفي الغريب ليدخل في صورة الوضع. تجوّل أثناء تلك الأيام الأُوَل مع منقذه عبد القهار، وكان الطفل عبد الوهاب يتبعهما بزهو عن قرب، بحذر من يخشى انكشاف أمره، ليقفز في اللحظة المناسبة شارحًا للولعة مَن أو ما هذا وذاك، فينهره عمّه ويتراجع أمام صمت الولعة الذي بدا دومًا وكأنه غائب.
في تجوالهما تسلّقا صخور وادي الرهبان ووصلا كهفه العميق. كان مدخل الغار ضيقًا، وبعد خطوات من الولوج فيه يستلقي الجدار المواجه قليلاً مكونًا بنتوءاته سلّمًا يدعو إلى الارتقاء. في الأعلى‘ على جانبي نهاية السلّم يتفرّع سردابان، القصير منهما ينتهي بكوّة تطلّ على الجبال والأودية المحيطة بالضيعة، بينما ينتهي الآخر في عين الناظر بشرخ أسود متطاول.
تعال. – أشار عبد القهار ماضيًا باتجاه الشرخ فتبعه الولعة. الصوت في الغار يزداد عمقًا. أضاف عبد القهار:
سأريك.
أشعل عبد القهار قدّاحة وبدّدت الشعلة بعضًا من حلكة الشرخ وسمحت للولعة تبيّين طريقه. كان يتساءل بعد كل منعرج عن نهاية هذا الكهف. توقف عبد القهار بعد حين وأطفأ قدّاحته:
حميت.
مكثا صامتين وهلة حتى أشعل الولعة قدّاحته وقال:
خذ.
تابعا التوغل، تارة يحنيان رأسيهما أو يحبوان وأخرى يشعران باتساع الحيز حولهما.
الزمن في العتمة ينبض مموّهًا، فالمرء يعجز عن التماشي معه ما لم يلتقي بصره بالأشياء.
غدا التنفّس ثقيلاً والعرق يتفصّد. شحّ اللهب وراح يخبو حتى انطفأ فغمرتهما العتمة المطلقة ثانية.
لا عليك. – قال عبد القهار وأكمل: – قرّبنا نطلع. خلّيك مع الحائط.
لم يطل بهما الأمر حتى شاهدا سقف السرداب مضاءً بنور خافت، ثم راح ضوء يتلبّس المكان مع تقدمهما.
وصلنا – قال عبد القهار وهو يدنو من مخرج الغار.
في أرض السرداب ثغرة تطلّ على صخور اضطجعت على بعضها. قفز عبد القهار وراح يدلّ رفيقه في طريق النزول.
ها هما في منحدر واد آخر وقد غابت الضيعة خلف الجبل الصخري الذي اخترقا رحمه. كان الولعة يلتفت بين حين وآخر وهما ينحدران، وقال لنفسه ما أن وصلا المسيل، من ناحية سهل البسيط: “الصخور تخفي ثغرة الخروج”.
راح ينفض ثيابه مقلّدًا عبد القهار ثم أشار مبتسمًا إلى عنقود الصخور:
سأسكن هنا.
نعم؟ – استفسر عبد القهار.
سأسكن في الغار. بالأحرى، سيكون مخبأي.. يأتونك من هنا فتخرج من هناك..
الغار عظيم – قال عبد القهار – عندنا الكثير منها.. تريد تشوفها؟
وضع الولعة كفه على كتف عبد القهار وأجاب:
لا ليس الآن. أمامنا الأيام بطولها.
سيذكر محمد علاء الدين واسطي العال بعد سنوات في مغتربه، جنوب القارة الأمريكية: “التقاه عمّي عبد القهار مع أزيز الرصاص. عمّي كان أيضًا متمرّدًا، على طريقته. هو وبئره والمياه التي رآها في حلمه. كان يعيش وحده ولوحده. هكذا عاش ومات”.
لكن عبد القهار يحب الضيعة. يحب أرتال الحور تخطّ ثعبنة النهير والسواقي، يحب الأشجار المستلقية بعد جهد نموّها على جدران الطين، وتلك الأخرى التي تطلّ برأس غصنها الأعلى كعين فضولية تسعى إلى استطلاع ما وراء حدود أرض الدار. يحب ذهب البرغل الممدّد على الأسطح، رائحة ورق الجوز، أيدي الصبية المسوّدة من تقشير الثمرة الخضراء. يحب الجبال وصخورها. ويمقت الناس أحيانًا. لأنهم يرتمون بظهورهم على الجدران البيضاء مستحمين بشمس الخريف فاغري الأفواه، في سبات يمتد من البذار إلى أن ترتمي السنابل مرهقة. ويحدث أنهم يفيقون، ساعة الطعن بكلمة أو بنظرة، ثم تعاود الأجفان الانطباق.
يحبّ، رغم ما لوثته البسمة المرائية من الهواء ورغم تحجّر الأسماع من النفاق. يحبّ تلك الوديان الصابرة على ندوب السيل والريح الموتورة ويحب رائحة التنّور.
راح، مع الأيام، يجمع الخيوط التي يتركها الولعة بلا قصد. عرف أنه من الشمال، وفهم شيئًا عن قصة قتل بثأر ما، وبارودة الموزر التي سرقها من عسكري فراري، وهروبه من سجن ما خلال نقله إلى سجن ما آخر.
كان يسعى إلى جمع الخيوط ليحوك بها معرفته للولعة، الذي حلّ بينهم وكأنما ليعفيه من عزلته المختارة. إلاّ أن عبد القهار لم يسأل شيئًا ولم يستفسر، فعندما حاول ذلك في البداية كان الولعة يجيبه بالصمت أو بتغيير مجرى الحديث. لكنه أدرك من طباع صديقه في التحادث أنه لم يعاشر صديقًا منذ زمن، وأن حاجة التنفّس ركّزها على شعرة النصل من بارودته الثمينة.
فجأة – كان ذلك في الكروم المتاخمة للمسطبة الصخرية التي يحفر بها بئره (قبره، برواية آل واسطي العال)، وكانا يحتسيان العرق – أسقط حبيسه على أسماع عبد القهار:
الواحد يسرق ويقتل فيرمونه للكلاب.. لا يتساءلون لماذا يسرق.. لماذا يقتل..
إلى الشمال، في السهول الممتدّة بين البادية ونهر العاصي، قرى القباب الطينية تجترّ عجزها (تبدو كأثداء نسوة استلقين منهكات).
وشامخًا، في أعلى الهضبة ومسوّرًا بأشجار الصنوبر، يوجه القصر الأبيض صدره للشمس، أرضه تمتدّ إلى ما وراء الأفق، والقرى المبعثرة بلون الأرض، أرض.
الأغا في القصر، والولعة تحت قبة يحفر قطعة قصب ستصبح مزمارًا آخر.
لا يذكر طفولته. لم يك يومًا طفلاً. تخشّن فمه على حلمة ثدي جرّحه الزيزفون وعظام يد الوالد الغاضبة من الألم. يد جاءت إليها لتنسى في المتعة، يد كانت تبكبها. لكنها كانت يد الوالد.
وخطى، ككل الأطفال، خطواته الأولى محاولاً اللحاق بأمّه في نقلها المحصول إلى عربة جاءت من القصر الأبيض. وما أكثر ما سقط وأكل التراب كأبناء التراب.
مع مرور السنين رأى والده يتآكله الإرهاق والمرض. عايش تقوّس ظهره وتجعّد جلده على العظام.
كان في الثانية عشرة من عمره عندما ألفاه، بعد رحيل العربة، ينتفض ويصرخ متشنجًا دون أن تخرج الصرخة من حلقه ثم يسقط مفلوجًا أبكم.
على بساط من القش، قرب الموقد في زاوية الحجرة، كابر الأب جمود الجسد واللسان وعاش سنينًا موجهًا بصره اليابس باتجاه الباب، وكأنه يرتقب شيئًا.
وحمل ثقل الأيام. نمى جسده من تراكم الحقد، ولم يملك صدرًا يجرحه ويبكي عليه. وبين أشباح القباب الأخرى، في حلقاتهم، راح يسرد حكاية الموت الباكر بأنغام وحشية لمزمار قاسٍ.
جاءه المراقب مرة، وكان من أقرباء الأغا، ليأمره بإخلاء البيت لأن عائلة أخرى وافدة ستقطن فيه. لم يكن غريبًا تهجير العاجزين والإتيان بعائلات حية التناسل من أقاصي البلاد.
أحسّ الولعة أنه فقد البصر لوهلة، ولأنه ما عاد يحتمل، لأن القهر طفّ من قدر التجلّد، لأنه يلمس القعر.. كان واقفًا عند الباب والمراقب أمامه، وبعدما رأى هذا انعكاس كلماته في محيا الولعة قرّر أن من المستحسن الابتعاد. لكن الولعة انهال عليه بما وجده قريبًا. كان منجلاً مزّق الجسد الأبيض وبدلة الأفندية البيضاء. صرخت الأم مذعورة وارتمت على ولدها، لحظتها التفت الولعة إلى عمق البيت مبتسمًا كالممسوس والرجفة ما زالت في يده، فرأى الأب على عهده، ينظر بالجمود إياه.
أيقظه صراخ الأم وتجمّع أشباح الجيران حوله، فأصابه الهلع وهرب.
لم يطل انتظار عملاء الأغا. قذفوا بالأم الراكعة المتوسلة خارجًا، ولم تختلج أجفان الأب عندما انصبّت عليه نيران البنادق.
شوهدت الأم بثيابها الممزقة وقد أبهت التراب الذي أهالته على رأسها من لون شعرها السافر وهي تمضي شرقًا. أقروا أنها جُنّت، بدليل نظرتها الجامدة.
سهرت الضيعة في تلك الليلة حول البيت المحترق، منكّسة الرأس.
“- بحثت عنها. علمت تفاصيل ما حدث عندما تسلّلت ليلة إلى الضيعة. لمست تجنّب الناس لي وقد بات الخوف في عيونهم أعمق. خشيت أن يشي بي أحدهم فهربت. لم أعد بعد ذلك أبدًا. انقضت عشر سنين.. ومن يدري؟ ربما لم يعد للضيعة وجود.
سرت شرقًا. التقيت بجماعات البدو، أسألهم فيهزّون رؤوسهم نفيًا. أنتقل إلى مربع آخر تهتز فيه الرؤوس ثانية، فثالثة..
مكثت متنقلاً في البادية زهاء العام. أبتعد عن الخيام وأرافق الرعاة. أرهقت جفنيّ يضيقان ليُحِدّأ الرؤية.. خُيّل إليّ مرارًا أنني أراها مسرعة نحوي فأهرع لملاقاتها لأجد الطيف نبتة شح.. أو حجر.
تركتها للذئاب ورحلت شمالاً. عملت حصّادًا في موسم الحصاد، ثم عبرت الجبال الحاجبة للشريط الساحلي وعملت عتّالاً في ميناء بيروت، ثم في مخبزٍ أعمل وأبيت فيه، ثم في أعمال ترميم لقصر باشا أجمل ما فيه طربوشه الأحمر . انتهى العمل وهدر المعلّم حقّي. بحثت عنه ولم أجده فاكتفيت باغتصاب زوجة الأغا في حديقة القصر.. وعدت إلى الجبال.. إلى الجوع والهروب مرة أخرى.
وماذا تفعل عندما تجوع ولا تجد بابًا للرزق؟ تسرق بالطبع، ولو تطلّب ذلك قتل من يحول دونك واللقمة. سرقت، مرة تلو الأخرى، حتى بات اعتيادًا. قبض عليّ اثنان من رجال الدرك، قرويان مثلي، علّماني كيف يتلذّذ ابن آدم بالتعذيب. نقلاني إلى مركز الناحية، لكنني لم أصله، فخلال وقفة في الطريق ابتعد أحدهما ليتغوّط في حرش قريب وراح الآخر يحضّر لنفسه لفافة تبغ، وقد تأنى في صنعها منشغلاً عنّي، ظانًا أن وجهي المجبول بالدم الجاف أوهن من أن يتشنّج ليسقط القبضة على رأسه.
أظنه مات، كأنني سمعت صوت انكسار الجمجمة. أخذت سلاحه وركضت إلى أسفل الوادي تلاحقني طلقات الآخر.. هنا.. سأريك.. شايف؟ الرصاصة ما زالت في اللحم.
وماذا أحكي لك بعدها؟ صرت قاطعًا للطريق يقتل إن لزم الأمر.. لكنني، قسمًا وحياة ذكري أبي وأمي، لم أوذي مزارعًا أو راعٍ. العسكر والدرك.. والأفندية.
سبق وحكيت لك من أين غنمت هذه البارودة”.
————– تنويه: * التوطئة: هي الفصل الثاني من رواية الولعة التي ننشر فصولها (الموطئ – التَّوْطِئَةُ – الوطْأة – الوطاءة) على التوالي، أسبوعياً على دحنون ————-