طيلة أعوام خلت كنت أعتقد بأن كافة المحققين الذين قابلتهم في فروع الأمن السورية المختلفة ينتمون إلى طائفة واحدة! مظهرهم، لهجتهم المبالغ فيها، أداؤهم، ومحاولاتهم الدائمة للغمز من هذه القناة، كل هذا جعلني أعتقد، والكثيرين مثلي، بأن كل ما يتعلق بالمحققين والمخبرين ورجال الأمن، وغيرهم من أزلام النظام الأمني، ينتمون إلى طائفة واحدة هي طائفة العائلة الحاكمة.
مع الزمن تكشّف لي بأن ظنّي لم يكن صحيحاً! فقد عرفت بالصدفة أن “أبو خلدون”، محققي في فرع فلسطين، لم يكن من تلك الطائفة، ورجل الأمن الشاب، الذي طالما طرق بابي، لم يكن كذلك، وأن بعض سجّاني صديقاتي لم يكونوا كذلك أيضاً!!عبر جملة من المعطيات يمكننا أن نلاحظ المحاولات الحثيثة طيلة العقود الماضية لـ”تطئيف” القطاع الأمني، ونسبه كله إلى طائفة بعينها، وكأن عناصره يستمدون (قوتهم) من تمثّلهم هذا، ولجعل كل أطياف المجتمع الأخرى تؤمن بأن النظام مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطائفة، ولجعل الطائفة، كذلك، تزداد ارتباطاً بالنظام من جهة أخرى بالإمعان في عزلها عن بقية الطوائف، فتحلّ الانتماءات والعلاقات الطائفية في المجتمع بدل ثقافة المواطنة والوطن، وتلفي الطائفة نفسها، عاماً بعد عام، متلبّسة لدور أجبرت على تلبسه بطرائق مختلفة ومتباينة ليست إلا واحدة منها جرّ شبابها باطراد إلى سلك الأمن والجيش والشرطة!!
هذه السيناريوهات المدروسة والمتراكمة عبر عقود، لتتغلغل في بنية المجتمع السوري، أثمرت في الثورة، وكأنها أُعدت لمثل هذه الأوقات! ليتكشّف كيف عمل الخطاب الإعلامي المبثوث، والذي ساهم فيه الإعلام العربي كما ساهم فيه الإعلام الرسمي السوري، على جعل الأقليات مقتنعة بأن الثورة ثورة طائفية وليست ثورة شعبية، وذلك منذ بداياتها، وهذا ما جعل الجدران العازلة، التي خلقها النظام لوجستياً وعاطفياً بين طوائف ومناطق سوريا، تزداد علواً وسماكة، مما ساهم زيادة في تفتيت مفهوم المواطنة أكثر فأكثر، خصوصاً وأن العنف المستشري من قبل النظام راح يولّد ردود أفعال عنفية تتنامى مع الوقت، تم تصيّدها منذ البداية لإقناع الأقليات بأنها مستهدفة من قبل (الأكثرية)، وليس النظام هو المستهدف فحسب، مما جعلها تلوذ به أكثر، وبالمقابل عمل النظام بأساليب عديدة على استخدام الأقليات، وخصوصاً الطائفة العلوية، كأدوات لقمعه ووقود له، مما جعل الطائفة في نظر المجتمع السوري عامة مسؤولة عن كافة جرائمه.
وراح الموت يزداد، مدن تقصف ومواطنون سوريون يسقطون كل يوم، ومن جهة أخرى يكاد لا يمر يوم لا تستقبل فيه إحدى الأقليات شهيداً من الجيش أو من الأمن! هؤلاء يحملون أولئك المسؤولية والعكس صحيح، والجدران تزداد سماكة والحقد يتعمق. مما جعل صوت العقل وسط السعار الدائر خفيضاً ومنبوذاً، والمعارض من طائفة العائلة المالكة سيتعرض للقمع بالدرجة الأولى من أهل منطقته وطائفته باعتباره (خائناً) للطائفة، ولطالما تعرّض الناشطون والمعارضون العلويون لهذا في الثورة، بعضهم اعتقل وأُتي به إلى حارته ليضربه أهلها في الساحات ويبصقون عليه مهللين لاعتقال الخائن قبل أن يأخذوه إلى معتقله! بعضهم حوصروا في بيوتهم وضربوا وهددوا بأهلهم وعرضهم. أما المسالمون منهم، الذين يدينون القتل والقتلة، فقد اضطروا للصمت ليقعوا في معضلة حقيقية تتلخّص بأن الصمت يعني التواطؤ مع الثورة! ما جعل الكثيرين منهم يقبعون في بيوتهم بانتظار المجهول الآتي دون أن يشاركوا في صناعته ليشبههم..
واستمرت لعبة النظام في إظهار رجاله من طائفة واحدة، إن عبر الفيديوهات التي يسرّبها عن سابق معرفة، باعتقادي، أو عبر رجال الحواجز الأمنية والعسكرية التي تنتشر على طول البلاد. فرغم أن هناك حواجز في حمص المشتعلة، مثلاً، رجالها من درعا أو من إدلب أو من حماة، أهلهم يقتلون في قراهم وهم يضربون الناس في حمص، إلا أنهم يصرّون على الحديث مع الناس بلهجة قروية، وكأنهم يستمدون القوة منها، كما أسلفت، أو كأن تلك اللهجة ارتبطت بشكل أوتوماتيكي بالعنجهية والقمع! كما أن شبيحة كثير من المناطق هم من تلك المناطق، شبّيحة حلب مثلاً حلبية، شبيحة دير الزور كذلك.. وليسوا من أية طائفة أو منطقة أخرى! وبسبب من كون حمص منطقة متوترة طائفياً فقد تمّ اللعب على هذه الحالة منذ اليوم الأول للثورة فيها، ففي مناطق التماس بين الحارات كان يتم استخدام بيوت العلويين كمناطق للقنص إلى الحارات الأخرى، عدد كبير من العائلات كان مجبراً على ذلك.. ثم يتم انتقاء شباب (مجرمين) لاستخدامهم كشبيحة في الحارات الأخرى، مما جعل تلك الحارات تقوم بأفعال انتقامية!.
بعد كل هذا العنف الذي استمر لسنة صار الحقد والانتقام سيد المشهد، وتطور إلى حالات خطف متبادل بين الطرفين، وراح مشهد الثورة السلمية يتراجع مقابل مشهد التسليح، وراحت سيناريوهات النظام القديمة/ الحديثة تُثمر بوادر لحرب أهلية محتملة..وأعتقد أن الكثيرين مثلي يذكرون مشهد الثورة السورية في أشهرها الأولى والمظاهرات المشتركة بين كل الطوائف، وأولها تلك التي حصلت في حمص، كما يذكرون العنف الهمجي من قبل رجال النظام.
ولكن ثمة حادثة أحاول ألا أنساها حصلت معي في المعضمية، وهي مدينة في ريف دمشق، في بيت أم ثكلى قتل ابنها ذو الأعوام الاثني عشر بيد شبيحة من الطائفة العلوية. لا أنساها لأنها تعكس لي إحدى طرق بناء سوريا الجديدة، فرغم إيماني بأن من يقتل إنما يفعل لأنه من رجال الطغاة، وليس لأنه من تلك الطائفة أو تلك، إلا أن (مؤامرة طائفية قذرة) مدعومة بتاريخ متآكل جعلت الجميع، بمن فيهم أنا، يحمل وزر تصرفات الآخرين التي لا تعبّر عنه بشيء! لكن تلك الأم المتّشحة بالسواد أجابتني بهدوء ثقيل حين سألتها إن كانت ستسامح من قتل ابنها؟!- “طبعاً ابنتي.. سنسامح، كلنا سنسامح بعضنا بالتأكيد، بدون الرحمة لن نبني بلدنا الجديدة!..”.
أبكتني، ليس لأنني أم وأعرف ماذا يعني فقدان صغيرها، بل لأنها جعلتني أشعر بقزامتي، وبأن إلحاح الذاكرة الطائفية والتاريخ المتعفن واعتبارات تجثم فوق صدورنا منذ أزمان هي التي تقود تفكيري، وتفكير الكثيرين غيري اليوم، وليس انتماءنا الإنساني والوطني!.)
ستنتصر اللغة على الرصاص ………..هكذا يقول التاريخ
نص رائع ………كدائما”
الدم لوثنا .. الدم أعطب السلام البساطة والطيبة التي عرفها السوريين
صورة تموت .. سوريا تنزف .. سوريا تحتاجنا جميعا.
شكرا لمقاربتك الرائعة روزا
لكن للأسف أعتقد أن اللغة .. اليوم للرصاص
“بدون الرحمة لن نبني بلدنا الجديدة”
هذا الحكمة الي كلنا اليوم بحاجتها