البرد قارس، السّماء رماديّة اللون،
ملامحي باهتة، لم أتكلّم منذ الصّباح، أشعر أحيانًا بأنّي أشتاق لسماع صوتي، و خشية أن أغرِق نفسي في الكثير من الجدل مع نفسي، أغنّي!.
حتى أنّي أوشكت على الاقتناع بأن صوتي جميل.
ترى ما الأغنية التي يمكن أن أستعين بها في هذه اللحظة؟
لا سبيل إلى الغناء، لست وحيدة، و غالبًا سأصل إلى السّجن بعد دقائق أقصر من أي مقطع رغبت أن أدندنه.
ستكون هذه المرّة الحقيقيّة الأولى، خطواتي ثقيلة، أشعر بانقباضٍ في صدري.
عرفتُ السّجن قبل ذلك حين جازفتُ بطلب رواية القوقعة(1)مصطفى خليفة، القوقعة/يوميّات متلصّص، أدب سجون، مذكّرات، دار الآداب/بيروت، 2008. من صاحب المكتبة رغم جهلي بخلفيّته السياسيّة، أذكر يومها أنّي شعرتُ بالخوف في طريق العودة إلى المنزل كما لو أن عيون المارّة تستطيع أن تخترق الكيس الأسود لتقرأ عنوان الرواية، يومها أيضًا حاوَلَت أُمّي أن تقنعني بأنّي تسرّعت بعض الشيء في اختياري، فهي كما تراني دومًا ”طفلة“، لكن يا أمي ربّما نسينا كيف يكون المرء طفلًا أو لم نتعلّم ذلك يومًا.
عرفت السجن أيضًا في عتمة الطاهر بن جلون(2)الطاهر بن جلون، تلك العتمة الباهرة، دار الساقي/بيروت، باللغة الفرنسية، 2000، الطبعة العربيّة 2002 من ترجمة بسّام حجار. الباهرة: ”إنّي ذراع جالسة على الأرض و يجب أن أدفع بكل ما أوتيت من قوّة لكي أنهض“، تلك الليلة وضعت خطًا تحت تلك العبارة لأنّها لفتتني لكن بعد أن طويت الصّفحة لم أفهم نفسي التي استعذَبت جمال العبارة التي تصف كل هذا الألم وحينها قرّرت أن أنام.
السُّور المحيط بالسّجن يشي بأنّ ما يحدث داخل جدرانه، يجب أن يبقى داخلها فحسب.
يوم قال لي ”حاسس إنّو بحبّك“ رَقَص قلبي، لكن لم أسمع يومًا نبضهُ قويًا كما في تلك اللحظات التي علمت فيها أنّي اقف أمام الزنزانة.
فتح الباب، وعلمت حينها أنّه لا سبيل لفتح النّافذة أو الوصول إليها، و أنّ الضّوء في الكثير من الزّنازين يبقى مضاء طوال الليل والنهار، عدا عن الزيارات المفاجئة من الحرّاس وضرورة بقاء السّجين مستيقظًا دون أيّ عمل أو نشاط سوى الجلوس على حافّة السّرير أو الكرسي بانتظار أوامر الأكل والنوم، وقد يوقظك الحارس ليلًا كي تعدّل وضعية نومك وفق ما يراه سجّانك ملائمًا.
”دقّقوا جيدًا، لتكتبوا تقريرًا عن مشاهداتكم“ هكذا تحدّثت البروفيسورة.
نسيتُ أن أخبركم أنّي بريئة، ولم يرغبوا في اعتقالي، أنا في السّجن كطالبةٍ في مجال العمل الاجتماعيّ وحقوق الانسان، وعليّ أن أرى المكان وأشعر بتفاصيله لأقدّم تقريري.
وإن مرّ في بالك الآن السؤال التالي: ”أيّ ترف هو أن نزور السّجن كسائحين أو كباحثين؟“ فأنا أشاركك السؤال ذاته.
بكيتُ وضحكت كثيرًا حين رأيت مرآة في غرف السجناء، لأنّ السّجن الذي أعرفه أقسى، لأنّي أشعر أنّني وبالرّغم من كل الانتهاكات أتجوّل في فندق مقارنة بسجون سوريا القابعة في أذهان من دخلها ومن لم يدخلها، لأن واحدة من أكثر اللحظات ألمًا هي أن ينظر السّجين بعد مغادرته لسجن ما في سوريا إلى نفسه في المرآة غالبًا حينها لن يعرف الشّخص الذي يراه و سيتيقّن أنّ الذي كانه لن يعود أبدًا.
عدتُ إلى غرفتي، اليوم أشعر أنّها سجني الصغير، فتحتُ النّافذة، لا شيء يذكر سوى أنّ:
البرد قارس و السّماء رماديّة اللون.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.