لطالما تكرر مؤخراً التعبير الشعبي القائل: “أولئك مع سوريا” أو “أولئك ضد سوريا” وذلك في معرض تصنيف الموقف الدولي، أو الشخصي، من الثورة السورية. في أغلب الأحيان يكون القصد من أن بلداً أو شخصاً “مع سوريا” أي أنه مع النظام السوري ضد الشعب، بمعنى آخر ضد الثورة!! من هنا يظهر بأن سوريا تتكثّف في الطغمة الحاكمة وليس في الشعب السوري، حتى في وجدان الشعب نفسه!! ليتبادر إلى الأذهان، في تلك اللحظة، التعريف الدلالي الذي طالما سمعناه، وأحياناً دون أن نفكّر فيه، “سوريا الأسد”.. حتى أن بائعة خبز في باريس سألتني مرة عن بلدي، وحين قلت لها سوريا صرخت ضاحكة بلكنة مكسّرة: “آه.. سوريا الأسد..”. إنه باختصار: الانصهار الساطع للأمة في جسد الملك، تعبير دقيق اسـتخدمه J-M. Apostolides في كتابه آلة الملك الصادر في باريس العام 1981.
يبدو أن النظام السوري، ككل ديكتاتوريات العالم، حاول أن يفرض جملة من الآليات المتراكمة على الفرد ليعتاد عليها وتصبح جزءاً يومياً من حياته، جزءاً طبيعياً يدخل في وجدانه. مع الوقت تصاغ البنى النفسية والشخصية للفرد بناء على تلك الآليات الممارسة عليه ومن حوله في الفضاء الاجتماعي والعام.. أهم هذه الآليات هي محاولة مماهاة الوطن بالقائد، حتى يأتي يوم يصبح الوطن هو القائد، والقائد هو الوطن، فلا يستطيع السوري بالتالي تخيّل أحدهما دون الآخر!
من هنا لن يكون ثمة أي بديل جدي عن النظام القائم، والذي يمسكه الديكتاتور بيديه. فنحن أمام حلّين لا ثالث لهما: إما النظام أو الفوضى. ذلك أن المجتمعات الموسومة بالخوف الدائم من الفوضى، والمتشرّبة لذلك التماهي بين الوطن والقائد، تتمسك بالديكتاتورية بكل ما أوتيت من قوة حينما يلوح خطر تلاشيها!!
أهم آلية من آليات تربية الفرد على ذلك التماهي هو التمثيل الصنمي (الإيقوني)، أي التجسيد المادي الفني لجسد القائد. وسيلاحظ المراقب أن سوريا، كما سيلاحظ أية بلاد ديكتاتورية أخرى، متخمة بصور القائد وتماثيله، من كافة الأحجام والأشكال والألوان والمواد، وبرسوماته واسمه، اللاحق لأي منشأة أو مَعْلَم: “مكتبة الأسد، جسر الرئيس، دار الأسد (أي الأوبرا)، مدينة الأسد، ضاحية الأسد… وهلمجرا”. والتمثيل الصنمي (الإيقوني) تمثيل قديم قدم الملكيات سواء أكانوا آلهة أو ملوكاً، ولكنه تمثيل غني بالدلالات، فهو يرمي إلى حل مشكلتين معاً: الأولى جعل ما هو غائب مادياً حاضراً رمزياً، فيغدو القائد معنا وحولنا وفي كل مكان. هذه الحالة من “الوثنية” المتأخرة تجعل الفضاء العام للبلد حكراً على وجود القائد، فكلما كانت مطامح الرئيس حكماً مطلقاً كلما ازدادت التجسيدات المادية وكثرت التمثيلات/ القداسية الفنية، تذكر الشعب على الدوام بعظمة الحاكم وجماله ومناعته إزاء العامة، كما تقنعهم على الدوام كم هو الديكتاتور مثير للإعجاب.
وحلّ المشكلة الثانية هي توحيد المرجع وصورته بالقوة، إلى الدرجة التي تتماهى مع بعضها، فيصبح تمثال الديكتاتور هو الديكتاتور نفسه في لحظة من اللحظات. وهذا ما يجعل أدوات النظام السوري يستميتون لحماية تماثيل القائد من التكسير على أيدي المتظاهرين. ويتم فرز دوريات أمنية كاملة ومدججة بالسلاح لحراسته ليل نهار. حتى أن الكثير من شباب الثورة دفعوا حياتهم ثمناً لإقدامهم على تهشيم تمثال أو تمزيق صورة، كما حدث في حماة حين استشهد حوالي 80 شاباً وهم يحاولون تكسير التمثال، وكما حدث مع الشاب الحمصي الذي مات تحت التعذيب بعد أن مزّق أول صورة للرئيس هناك، وكما حدث كذلك في درعا حين نجح الشباب في إسقاط أول تمثال في 25 آذار من العام الماضي.
تهشيم التماثيل يعني، في العمق، تهشيم لقدسية المطلق: الرجل الواحد. لذلك كان تفتيت جلال واحترام الديكتاتور آلية من أهم آليات العمل الثوري، غير الواعية أحياناً. فظهرت شعارات المظاهرات التي تشتمه وتهينه، وكذلك اللافتات والرسومات التي تصغّره وتحقّره.. ومع الزمن صار الأمر يتطور لجهة تحقير كل الرموز التي تمت بصلة إلى النظام السوري بشكل من الأشكال.
بالمقابل راحت الآلة الإعلامية للنظام السوري، المتمثل في القائد، تكثّف من جهودها بشأن تكريس الوجود المهيمن للقائد، إلى حد تأليهه بحق. وقد بدت الممارسات كثيرة سواء في إعلام النظام، بشتى أشكاله، أو في هتافات الموالين في المسيرات التأييدية، أو في غيرها من الطرق. قبل مدة مررت من ساحة السبع بحرات وهي إحدى أهم ساحات العاصمة دمشق، وكان ثمة لافتة زرقاء مكتوب عليها بالأصفر: (باختصار: الأسد بخير.. الدنيا بخير). وكان السير مقطوعاً إلى الساحة من كل الطرق المؤدية إليها بعشرات الدوريات الأمنية بمؤازرة من الشرطة، وتحت اللافتة كان ثمة عشرات الشباب والصبايا يرقصون، لسبب ما، بكل حماسة وعنفوان على أغاني (وطنية) هادرة تتغزّل بالقائد!! كانوا أشبه بروبوتات ترقص على أوامر السلطات دون أن تعرف لماذا! رغم أن السوريين يتساقطون في كل مكان وعلى كامل التراب السوري، وثمة مدن تدمّر، وهذا ما لا ينكره حتى إعلام النظام، باعتبار أن الجماعات الإرهابية المسلحة هي من تقتلهم!!.
الأسد بخير الدنيا بخير.. هذه اللافتة تلخّص كل التماهي الذي تحدثت عنه آنفاً، كما تلخّص الآليات التي تحوّل الفرد في بلاد الديكتاتوريات إلى مجرد روبوت يفعل ما يؤمر به، وما يدعوه الواجب لتنفيذه تجاه قائده الذي يمثّل الوطن بكل جبروته.
روزا ياسين حسن
خاص بسوريا فوق الجميع
.