كان لزاماً أن نستقيظ باكراً يومها، ابناء و بنات خالة وعمّات، فزعة لخالي المهندس الكهربائي الذي طخ في باله أن يجرب حظه في الزراعة هذه السنة، ربما أملاً بشراء بيت خاص له. قبل السابعة أوصلتنا الحافلة الصغيرة الى موحسن ومشينا الى أرض خالي، أظنها كانت “كاع البكرة”، المكتظة بنبتات السمسم الصغيرة.
كانت رحلة ترفيهية أكثر منها عملاً شاقاً لنا نحن أبناء الفلاحين الذين هجروا الزراعة منذ زمن بعيد، رحلة تشبه خروج أهالي شارع عشرين من ظل الأستوديو الى شمس النهار، حمد والعراقي قائد النعماني وأحلام محمد وسناء التكمجي والممثل الكويتي الراحل أحمد الصالح الذي شاهدته كثيراً في مسلسلات كويتية وكل مرة أتخيله نفسه عبدالله بائع العربة في إفتح ياسمسم برنامج الأطفال الأكثر حفراً في الوجدان منذ عام 1979، سنة إنتاج جزئه الأول مروراً بجزئه الثاني 82 والمأخوذ أصلاً عن شارع سمسم الأمريكي .”المؤامرة تمد لسانها هنا”.
السمسم لا يحب الصحبة والصحبجية إلاّ من بعيد لبعيد، يحتاج الى شعور الفرادة حتى يعطيك من روحه وتتذوق فتنته في الطحينة والحلاوة وألف أكلة أخرى، والتفريد هو أن تقوم بتخفيف عدد نبتات السمسم في كل لوح أو مسكبة أرض حتى لا تنافس بعضها ويقل إنتاجها، تنزع بيديك العاريتين النبات الكثيف بحيث تترك عشرة أو خمس عشرة سنتيمتر بين كل واحدة وأخرى، ولا عليك من زيت السمسم الذي سيملأ راحة يدك وأنت تقوم بالتفريد فتراب الأرض سيتكفل به، ولأن الفرادة من اختصاص البشر أيضا، جادت روح أحدنا بالغناء بكلمات مظفر النواب
“حن وآنا حن …
عيونك زرازير البراري
بكل فرحها بكل نشاط
جناحها بعالي السحر
والروح مني عوسجة بر
ما وصل ليها الندى
ولا جاسها بقطرة المطر”.
لكننا مع جمال الأغنية والروح الوقّادة رددناها هكذا، ولا جاسها جاسم المطر، وأبو أحمد “جاسم المطر” هو زوج عمتي نعيمة، رحم الله كليهما. ذاكرتي مشوشة بخصوص اسم عمتي نعيمة، يخطر ببالي أنها سميّت على اسم شقيقتها المتوفاة قبل ولادتها، كانت شبه عادة في نواحي الفرات وربما في سوريا كلها اذا ما مات طفل لعائلة أن يسمّوا المولود الذي يأتي بعده باسمه، كانت وفيات الأطفال منتشرة بكثرة حتى أن بعض الأطفال لايمنحون اسماً إلا بعد النجاة من الحصبة والجدري وشلل الأطفال حتى ذهبت مثلاً عن الصعوبة وجدارة العيش والحياة. “قدّامي حصبة وجدري” لتصف المعوقات التي ستواجهها في أمر ما.
أبو أحمد عسكري قديم منذ الستينيات خدم في أنحاء سوريا من من شرقها لغربها ومن القنيطرة الى الحسكة بإخلاص وتفاني ونظافة يد قلّ نظيرها، “صار ضروريا هذا القول بعد أن نخر التعفيش والفساد عقيدة الجيش السوري الذي يعيث قتلاً في أرجاء البلاد خلال السنين الخمس الماضية” صورته الأنيقة بالبدلة العسكرية ورتبة صف الضابط على كتفه والعقال واليشمر على رأسه تقول أنه من زمان جيش التحرير العربي أيام الشريف حسين، رجولته وطيبته وحنيّته تعنون صورته “جنتلمان من ذاك الزمان”.
غير أن شاعراً مغموراً لم أعرف اسمه الى الآن، كتب أغنية انتشرت كثيراً بإلهابها للمشاعر تلك الأيام وغناها سعدون جابر:
يا شعبنا اليعربي.. في مكة ومسرى النبي
أرض الحجاز ونجد.. لمت جيوش الحقد.. الله أكبر
وقاد بعدها بسنوات طويلة حملة في صحف ومجلات السعودية كالجزيرة والرياض للاعتذار عن هذه الأغنية مبرراً الأمر بأنه أجبر على ذلك.
ليلهب المشاعر أكثر قرر”أسد السنة” صدام حسين إضافة جملة الله أكبر للعلم العراقي، معتقداً أن جملة كهذه على العلم ستحشد العرب والمسلمين خلفه في مغامرته الكارثية. لا ننكر أنه حصد بعض النجاح مع صواريخه “السكود” التي أطلقها تجاه عدوتنا التاريخية في تل ابيب تزامناً مع إحياء أغنية “وين الملايين.. الشعب العربي وين؟” وقضينا شهوراً نتسائل مع جوليا بطرس وسوسن الحمامي وأمل عرفة وأبو عدي عن الملايين وعن الشعب العربي مع أن الجواب واضح في أغنية الست “اسأل روحك”.
ولأن الديكتاتور لا يستمع الى الموسيقى والأغاني، أرسل حافظ الأسد قسماً من جيشه للمشاركة في العاصفة التي ستنطلق من الصحراء أسوةً بأشقائه حكام العرب، أخبرني غير واحد أن علي حبيب قائد القوات السورية المشاركة عاد الى فرقته السابعة وفي جيبه مولدتين كهربائيتين عملاقتين تكفي واحدتهما لتغذية مدينة صغيرة بالكهرباء. “التعفيش أقدم مهنة في التاريخ”.
عند استراحة الغداء في يوم تفريد السمسم هذا، فتح ابن خالتي راديو الجيب خاصته ووضعه على أذنه، كانت الإذاعة العراقية تبث الأغاني والبيان تلو البيان عن انقلاب عسكري يقوده ضابط كويتي اسمه علاء حسين أعلن قيام حكومة جمهورية مؤقتة في الكويت بدعم من الجيش العراقي. رفع ماهر الراديو عن أذنه و خاطبنا بنبرة فيها قلق وتشويش أكثر من الفخامة والجزالة التي حاول اصطناعها:
الجيش العراقي اجتاح الكويت.
في عام 1989، قرر فيصل الياسري منتج افتح يا سمسم إنتاج جزء ثالث من البرنامج وبدأ عرض حلقاته المئة والعشرين قبل أن تتوقف عند الحلقة 44 بسبب الحرب بعد حذف المشاهد التي أدّاها الممثلون العراقيون.
يبقى أن مغنياً شعبياً في حوران، في مظاهرة صغيرة في احدى قرى درعا من العام الأول للثورة طهّر الملايين من رجس السنين واستبدادها بصوته ولكنته الحوارنية الجميلة وخرجت، وين الملايين.. الشعب العربي وين يالله
يقول “يالله” كأن الأغنية خُلقت للرقص والدبكة والمظاهرة عرس شعبي في قرية لم تعد منسية.
الآن، بعد خمس وعشرين من السنين مذّاك اليوم المشهود، الثاني من آب 1990، لا خبر عن محصول السمسم ذاك، لاخبر ولا كفية ولا حامض حلو ولا شربات على ما تقول الأغنية العراقية الشهيرة، لكن الكوارث لم تتوقف من حينها الى الآن وبقيت “افتح ياسمسم” التعويذة التي تفتح المغارة بعد المغارة في هذا الركام الذي اسمه “بلادنا”.
بلادنا التي نغادرها واحدا تلو الآخر لمناف ٍ بعيدة يأكلنا الحنين فيها مع أغنية سعدون جابر:
“يا طيور الطايرة مري بهلي.. يا شمسنا الدايرة بديرة هلي” التي كتبها في هامش أخير هنا شاعر عراقي شهير اسمه “زهير الدجيلي” ولا صدفة ابداً بكونه أحد اثنين مع فارس يواكيم كتبوا السيناريو البديع لبرنامجنا
افرد يا سمسم، أقصد افتح.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.