الآن، ومن موقعي كقارئ أودّ لفت نظر الأدب وأهله إلى هموم مَنْ يُفترض أنّهم مَصبّ نهر سحرهم… من شعر ونثر القرّاء والقراءة.
القراءة كحق: يشتكي الكتّابُ من ضيق المجال الحر ومن حصار الرقابة على الكلمة وممّا يسببّه ذلك من ضعف المُنتَج الأدبي وهجرة الأدباء أو حتّى مكوثهم في معتقلات الاستبداد… وصولاً إلى الإقصاء قتلاً. في الواقع إذا ما نظرنا إلى الأمر من الضفة الأخرى للكلمة الضفّة المتلقية، القارئ، لوجدنا أنّه وفي سوريا تحديداً تعرّض القارئ إلى كلّ أنواع الحصار ليصل إلى قناعة مفادها: أن لا شيء يستحقّ هدر الوقت في القراءة، وتمّ ذلك بالتوازي مع التدجين العام للمواطن. حتّى أنّه في ثمانينات القرن الماضي لم تسلم المجلات الرياضية من تقطيع أوراقها لتصل مجلة كـَ “الصقر” ليد القارئ وهي عبارة عن صفحتي الغلاف وصفحة الإعلانات فقط! ناهيك عن مجلات كـ “العربي” أو “المستقبل” التي كانت تصل بشقّ النفس ليد القارئ بعد أن تكون يد الرقابة قد عرّتها من أغلب الأوراق التي تستر لحمها والعظم وتفضح عورة الرقابة.
إذاً، لقد كان همّ القارئ مساوياً بحجم الألم همّ الكاتب…. حصار في كلّ شيء. أذكر ويذكر الكثيرون كيف كانت زاوية لوليد معماري في جريدة حكومية تشكّل فوزاً لقارئ حصل على تلك الجريدة. نحنُ حوصرنا ومُنع عنّا زادنا لعقود… وما كان يصلنا إلّا الفتات.
قد يقول قائل، تلك المكتبات الكبيرة كانت تفتح أبوابها على مصراعيها. وأقول سوريا بلد لم ولن تقف على رأسها… لا يمكن لها أن تقف على دمشق أو حلب، سوريا بلد يقف ويستقر على كامل جسمه…. تماماً كالأفعى، هذا إذا سلّمنا بأن ما احتوته مكتبات دمشق وحلب أو المدن الكبرى كان مجارياً لما يُنشر ويُقرأ عالمياً.
لقد أبقى النظام السوري قرّاء البلد على مسافة واضحة للخلف من الحديث من الأدب وأساليب النشر، فعندما كانت المجّلات والدوريات الثقافية العربية والعالمية تمدّ يد العون للقارئ بسعر مقبول… كان النظام يقدّم لنا جرائده كوليمة وحيدة على معالف مُعدّة سابقاً لتُحقّر عقولنا. وعندما ظهرت وسائل حديثة للنشر حجبَ المواقع الإلكترونية متذرّعاً بحجج سخيفة. وبقينا سجناء الحصار.
فقدُ القراءة لما تفقده الكتابة: إذاً؛ كلما فقدت الكتابة مجالاً حرّاً أو قلباً ناطقاً باسمها فقدت القراءة مجالات وقلوباً، فعندما يعتقل أديب يختنق قرّاء… وعندما تجري محاولة إذلاله نصاب كقرّاء بداء المذلّة. وعندما يمرّ مقص الرقابة على كتاب نشهق من حلاوة الرّوح.
لأخي زاهي نوفل روايتان ومجموعتان قصصيتان. فاز عمل له بجائزة “المزرعة” التي كانت تمنح جوائزها على مستوى الوطن السوري وفازت رواية بالمرتبة الثالثة في مهرجان الاحتفاء بدمشق عاصمة للثقافة العربية. لم يُسمح له بالنشر (فقط ما طبعت وزارة الثقافة من نسخ)!
حسناً سأسكب هنا بعض ما يزعج روحي: ففي يوم ما وصلنا كقرّاء أنّه في أحد لقاءات اتحاد الكتاب العرب في القاهرة، عرض الكتّاب العرب تقديم مساعدة مالية لسعد الله ونّوس للعلاج وكان مرضه قد اشتدّ، لكن علي عقلة عرسان اعترضَ! وبعدها كانت مكرمة من حافظ الأسد لمساعدة ونّوس. أنا كقارئ أُهنت…. وآلمني عقلي لشهور.
القراءة كواجب ومسؤولية: هل كان الذنْب كلّه ذنْب الإدارة/ النظام؟ كيف نفسّر تحدي البعض وقراءة أمّهات الكتب سرقة؟
كانت القراءة ولا زالت واجباً ومسؤولية صاحبها. القراءة، برأيي، غير موقوفة على المتعة، بل متخطيّة ذلك إلى التعب، تعب في البحث، عطاء باتجاه المادة المقروءة بقبولها باحترام ونقدها باحترام ومنحها الوقت بمحبة والأهم من ذلك التضحية لنيلها.
القراءة تستحق بذل الجهد الدعوي لها. نشر رسالتها بين الناس. فقلْ إقرأْ لكلّ من تلتقيه وتحمّل عناء سخريته منك. كم مرّةً فعلتَ ذلك؟ كم مرّة أهديتَ كتاباً لصديق أو صديقة تعرف سلفاً أنّه يفضل قطعة ثياب أو حُلي على الكتب؟ أوكنتَ تظنّ أنك بإهدائك كتاباً لم يحب القراءة أكملت مهمتك؟ الحق أراه أنّ اخيارك السهل قلّل مساحة الحب في العالم من حولك وزاد حصار الكتاب والكتابة والكتّاب والقرّاء. وأودى بالمعرفة إلى ضيّق الطرق. وما بلاوينا كلّها إلّا لضيق مساحة المعرفة في مخّ ومخيخ من ارتّأوا أنّهم نخبة أو طليعة.
لقد أُهديتُ رواية “زُوبُك” عزيز نيسين لتفوقّي، النسبي، في الدراسة في سني مراهقتي من جهة سياسية في قريتي؛ أظّنّني لا أذكر من سياسة وإيديولوجية تلك الجهة إلّا ما ندر؛ إلّا أني أذكر تلك الهديّة حتماً أذكر كيف تسلّمتها ثم أذكر تقريباً تفاصيل الرواية. وتذكّرني الرواية بالجهة المانحة كطيف.
القراءة تطلبُ: نعم القراءة تطلبُ برجاء من الكتابة وأهلها أنْ يرأفوا بها وبالقرّاء. أن يدركوا أن هناك من يقرأ دون أن يكتب وأن تلك هي علاقة صحيّة وصحيحة. القراءة تتمنّى على أهل الكتابة أن يعوا أن هناك من يقرأ ليتفاعل معهم. فيودّ لو يُحترم عقله. يودّ القارئ أن يجد فيما يقرأ بعض ذاته، فقط بعضها. ثم أن يلتقي ببقيةٍ من ذاته عبر كتاب آخر ينتظرُ أن يرسم هو أيضاً بصمته في تلك الذات القارئة. الذات الإنسانية ذات متنامية دائماً وستجد بقيةً لها في كلّ جديد. فإن لم تجده في مُنتَج أدبي ما حينها فقط كان هذا المُنتَج، برأيي، رديئاً.
مُختصرٌ ما قرأتم في هذا النّص ولكنّه بعضٌ من هموم القرّاء ولا بدّ أنّ ما يُصيب القرّأء يجدُ له مكاناً عند الكتّاب. كبيرٌ حجم ألم الأديب عندما تُحتجز كلمته التي اجترحها من لدنه لتصل إلى عين قارئ أو أُذن سامع ومهول حجم ألم القارئ إذ لديه عينٌ ترى وأذنٌ تسمع، ولكنّ لا شيء تتلقّفه حواسه الحيّة من حوله إلّا الخواء!
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.