حاوره جمال خليل صبح
– أبدأ بالسّؤال من واقعنا اليوم. واضح من خلال مقالاتك في بعض المواقع والصحف العربية (والأجنبية ايضا) بأنك، ربّما كحال عموم السوريين، تشغلك اللحظة السياسية الراهنة وهذه الحرب الضروس التي نشهدها على الأرض السورية. في مقال قديم لك ذكرت “وليمة الذّئاب” في وصف المشهد السوري آنذاك سنة 2012. ما الذي يشغل فوّاز حدّاد فعلا اليوم؟ هل هناك فصل بين ما قد يراه “المواطن السوري” الكامن فينا وذلك “الروائي” الكامن فيك؟
منذ بداية الأزمة السورية التي تعددت وجوهها وسياقاتها، فمن احتجاجات ومظاهرات الى انتفاضة وحرب، ثم فوضى وتدخلات دولية، ما زالت الثورة أحد وجوهها. هذه الوجه لا ينبغي تغييبه، وإلا حولنا ما يجري في بلدنا إلى نظام وإرهاب فقط.
لم تكن حربنا السورية كلاسيكية، فقد تنوع تصنيفها إلى حرب أهلية وطائفية ومذهبية وإقليمية، خاضعة كلها للتجاذبات الدولية. فالمشهد السوري حفل بمشهديات فاقت التصور، فمن جهاديين قادمين من اطراف العالم الأربعة، إلى ميليشيات مذهبية لحماية المراقد المقدسة، تدعي الثأر وتطلبه، برعاية دول تحاول ان تجد مكاناً لها في سورية، حتى أنك تتعجب من فرط هذا الاقبال، ترى ما الذي يراد لسورية؟ هذا المشهد لم يتغير منذ أعوام، ترافقه تنويعات جزئية، بمواكبة الأمم المتحدة العاجزة كلياً، وتطمح الى حل لا يمكن تمريره من دون الكبار الذين يسهمون بتأجيجه. عموماً أدوار الكبار كانت قذرة وبلا خجل، على الضد من غرب متحضر اعتقدنا أنه منصف. تدخلاتهم لا علاقة لها بالعدالة والحضارة، علاقتها بهمجية المصالح أوثق. المؤسف أن الكلفة الكبرى يدفعها المدنيون من حياتهم وجناية عمرهم.
وإذا كان لي موقع فيها، فأنا السوري كاتب صادف انه كان روائياً، لا موقع لي خاص على الاطلاق، ولا يمكنني الفصل بيني أنا كسوري ومهنتي ككاتب، خاضع لتأثيرات ما يجري يومياً على مدار الساعة. خاصة وأنا عاجز وأكابد الأمرين عندما أرى بلدي يدمر ويحترق بأيدي نظام سوري، يشد أزره مرتزقة يعتقدون أنهم مأجورون لحساب الله. ولقد كانت الرواية وكتابة بعض المقالات، في جانب منها اعلان لموقفي، اكدت فيه على انحيازي المطلق لشعبي، اذ لا يمكنني أن أكون محايداً، فالحياد جريمة لأنه يصب في جانب الاستبداد. ولقد كانت الرواية محاولة فهم وتفسير ما بدا لي مفاجئاً ومخالفا لتوقعاتي في الثورة، التي كانت خلافاً لتوقعاتنا معجزة سورية مشرفة، ومتفوقة اخلاقياً. فالاحتجاجات شملت أغلب المدن والقرى السورية في حركة شكلت شبه اجماع على الحرية والكرامة… ودونما تراجع. ومخالفة أيضاً لتوقعاتي في أن يتصرف النظام على هذا النحو الاجرامي، بشن الحرب على الشعب، في حين كان من الممكن تجنب هذا العلاج الدموي.
لا اعتقد أن هناك سوري لم يعان من النظام، حتى جماعاته الموالية التي ورطها في الحرب. لم يكن رحيماً بها. فالسلطة هي السلطة، ولا من جديد في التركيع والتجويع والحرق والتدمير، والتعذيب حتى الموت سوى في عياراتها. كان هذا منطق النظام، لم يتح له استعماله متكاملا من قبل، وها هو ما زال يستنفده على أسوأ وجه.
– لو راعينا قلق “المترجم الخائن” حامد سليم في روايتك، وصراعه الوجودي، أي لو أردنا التّحديد أكثر بين “السّماء المدلهمّة” و”السماء” المكفهرّة”، أي سماء يمكن أن تُتَرجَم فيه سماء السوريين اليوم؟ هل هي تلك السماء الهاطلة بالبراميل والموت، أم سماء الإحباط والقنوط واليأس من الترك والوحدة؟
سماء سوداء تصب الحمم على السوريين. ما يدوي في السماء أصبح نذيراً بالهلاك والتشرد، ما يشكل ترجمة دقيقة للبراميل المتفجرة، دلالاتها عدا الموت، الافتقاد المروع للانسانية على الصعد كافة. ففي الداخل السوري، مهندسون يشرفون على تصنيع البراميل، وطيارون يستهدفون الافران والمشافي والبشر، ولا ننسى الذين يصدرون الأوامر، هؤلاء كلهم سوريون يعلمون بأنهم يقتلون سوريين. أليس هذا ما يدفع الى التشكيك بانتمائنا إلى سورية، وبأننا بشر، ويدفع بنا إلى حضيض اليأس، وفي الوقت نفسه ندرك بأن ليس بوسعنا أن نيأس أكثر بعدما استهلكنا ما يزيد عنه. وحدها المسؤولية تدفعنا الى التفكير عما يجب علينا فعله لرأب هذا الصدع في المجتمع السوري الذي انشرخ وانفرط وتفسخ في وطن كان سجناً وأصبح مقبرة.
السؤال المحير: “ما شكل هذا الوطن الذي سيجمع بيننا؟” حتى الآن بلا جواب.
– في “السوريون الأعداء” هناك فيضٌ واضحٌ للذاكرة الجمعية إن صحّ التعبير، رفلت به كل الشخصيات بمستويات متعدّدة ضاربة في كل الإتجاهات. هل تؤمن فعلا بوجود “مقبرة ذكريات” جمعية كانت أم فردية في “لاوعي السوريين”، حاول العمل نبشها أو إعادتها إلى ساحة الوعي؟
الذاكرة الجمعية للأجيال التي على قيد الحياة، تحتوي على الانقلابات والسجون والمعتقلات والمفقودين والأموات. أضيف اليها منذ خمس سنوات الاحتجاجات والمجازر وحرب وحشية بلا رادع ولا رحمة شملت سورية. ما أسوأنا إذا غفلنا أو تناسينا ما عاناه مئات الآلاف من السوريين، أصبحوا اليوم بالملايين. في الثمانينات كنا جاهلين بما يجري في حماة وتدمر وأقبية المخابرات، نظن أنها مجرد اشاعات من مبالغات المعارضين الإسلاميين وغيرهم، الى أن ظهرت بعد سنوات طويلة شهادات متفرقة لبعض هؤلاء الذين خرجوا من السجون، مع أن اغلبهم اصابهم البكم، او غادروا البلد الى غير ما عودة. ثم جاءت رواية “القوقعة” الشهادة التوثيقية للكاتب مصطفى خليفة، وهبطت كما الصاعقة فو ق رؤوسنا، لتقطع الشك باليقين، بتأكيدها على شهادات معتقلي الاخوان المسلمين وما لاقوه في سجن تدمر. شكلت أزمة ضمير ورعب. لم استطع قراءة اكثر من عشر صفحات كل يوم من كتاب “القوقعة”، لا يمكن تجاهل هذه الشهادة النبيلة، الجريئة والقاسية، ونزعم بعدها أننا لا نعرف طبيعة هذا النظام. لم يكن الصمت الا من فرط الخوف الذي زرع في نفوسنا طوال ما يزيد عن أربعة عقود.
في “السوريون الأعداء” انتقدني موالون للنظام يزعمون انهم محايدون، وربما معارضون، انني من الاخوان المسلمين لأنني اعتمدت على مصادرهم، وكأن القاتل سيسمح لأجهزة المخابرات والجلادين في السجون بتزويدي بروايتهم “الإنسانية” عن تعذيبهم للمعتقلين؟ ترى هل اطلع أحد على وثائق سجن تدمر؟ هذا اذا كان لدى السجن وثائق على أنواع التعذيب والاعدامات ومواقع القبور الجماعية في الصحراء، ما دام تزوير الحقائق يطالعك في مدخل االسجن في لافتة كتب عليها “مركز التطهير الوطني”! فالكذب لا حدود له.
الذين انتقدوني كانوا مثقفين يعتبرون ان تعذيب الاخوان المسلمين وحتى قتلهم اجراءً طبيعياً، وربما عملاً وطنياً. لكنهم ينسون أن هناك دولة وقانون، وليس ميليشيا وحاقدون. لا يجوز للدولة بأي حال من الأحوال التصرف كعصابات المخدرات والمافيا. إذا كان المعتقلون من الاخوان المسلمين اليسوا بشراً؟ كانت التحقيقات ارتجالية والمحاكمات مهزلة والاعدامات ميدانية. مع أن الكثير من الاعتقالات كانت على الشبهة، ولشبهات تافهة، لا شيء يحلل ولا يبرر اذلال البشر وتعذيبهم ليلاً ونهاراً، وطوال سنوات.
لا بد من اثارة هذه الذكريات، كي ننصف الضحايا، وكي نلوم أنفسنا على جهلنا، ونتعرف إلى عقلية النظام التي حددت تعامله فيما بعد على هذه الشاكلة مع المظاهرات السلمية، أساليب دموية اقتفاها أصغر عنصر الى أكبر مسؤول في الدولة. الدولة الأمنية، مدرسة للطغيان أول ما يتعلمونه فيها اهانة البشر.
– في رواية “جنود الله” جعلت “الأب” لسان الرواي بكل ما يحمله النص من مرارة و”ديموقراطية في الروايات” كما قلت لاحقا في مناسبة أخرى. هل ترى هناك علاقة بين “الأبوة السياسية” المستبدّة و”العنف” أو “الإرهاب” الذي بات الآن فالتا من كل عقال؟ لماذا هذا الربط الذي ينهل بشكل أو بآخر من تراث التحليل النفسي الكلاسيكي بين الأب والإستبداد؟ هل فعلا نحن بحاجة إلى “قتل الأب” إجتماعيا وسياسيا، كما يذهب البعض؟ وإن كان لابد، فما دور الثقافة في ذلك؟
رواية “جنود الله” حفزني على كتابتها التأمل في طموحات جيلنا وانكساراته ومآلاته، ما طرح سؤالاً: لماذا أفرز الجيل اليساري الذي سيطر على المشهد السياسي طوال عقود جيلاً اصولياً؟ وكأن الوراثة أخطأت قوانينها، فبدلاً من أن يتعمق النزوع اليساري ارتد إلى ما قبل السياسة. هل كان حراك أجيال، أو محاولة “قتل الأب” على المستويين السياسي والواقعي، أم لا علاقة لها بالاب، وإنما باخفاقاته، وإن حملت صيغة التمرد؟ بدت عملية توريث من ناحية العناوين والأساليب، بينما المضامين مختلفة، تُلاحظ بتحوير شعارات الجيل اليساري الى ما يماثلها: أصبحت الإمبريالية هي الطاغوت، والأنظمة الرجعية العميلة، أنظمة ملحدة ومرتدة، والحزب الثوري، الجيل القرآني الشاب، والكفاح المسلح هو الجهاد، أما العنف الثوري فهو الاستشهاد.
دخلت طروحات الجيل اليساري المهزومة إلى القاموس السياسي الأصولي، وأصبحت قيد الاستعمال، بعد تخلي اليسار عنها، ما هيأ مناخاً مواتياً للاتجاهات الجهادية وووفر لها مادة دسمة كانت معطلة فاستخدمتها. ما اخفق فيه اليساريون نجح فيه المتأسلمون. هزيمة اليسار كانت كاملة ومتكاملة باسترشادهم بأنظمة دكتاتورية منحطة وفاسدة، ادعت انها دولة العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، بينما كانت دولة التسلط والرعب، والاسترشاد بروسيا التي كانت كعبة اليسار المريض.
الدلالة على تفاهة بعض أصوات اليسار، عندما قامت الاحتجاجات في آذار 2011 لم يتقدموا صفوفه، أو يشاركوا فيه، المظاهرات التي عمت سورية قدمت لهم ثورة ضد الاستبداد على طبق من الاحتجاجات الحقيقية، بلا افتعال ولا تزوير… ولا دول أجنبية عدوة. وبدلا من أن يبادر اليساريون في الداخل والساحل إلى الدعوة إلى التظاهر والالتحاق بالانتفاضة، التحقوا بالنظام تحت التعلات نفسها التي ساقها تنظير معاد للاسلام بزعم انه إرهابي ومتخلف، وأخذوا جانب القناصة والدبابات والطائرات التقدمية. أما الحجة، فخروجها من المساجد، وتجاهلوا أن الشعب السوري شعب متدين، هل إذا كان الشعب متديناً يجوز حرمانه من الحرية والعدالة؟ وتجاهلوا أيضاً إلى حد الجحود، أن هناك مظالم عمرها أربعون عاماً مازالت مستمرة وإلى تفاقم، الحماقة أنهم لم يريدوا للاسلام ان يكون له دور في استنهاض الهمم للانتفاض ضد الطغيان. هل كان لتحوز الانتفاضة على القبول أن نستأجر من دول الجوار شعباً بلا دين؟ مدعو اليسار أيدوا الشبيحة حاملي الهراوات وعناصر الأمن الذين خرجوا من أقبية المخابرات، والمنظمات المفبركة شعبيتها، ودوائر الدولة والحزب الذين كانوا من جملة ناهبي الشعب، وحصلوا على مباركة مجلس الشعب الديمقراطي المنتخب… فأية مهزلة جائرة؟! هذا الفعل الانتهازي كان موقفهم منذ خمس سنوات حتى الآن.
– أنت من الأشخاص الذين فضّلوا البقاء في الداخل حتى وقت متأخر نوعا ما. لم نعرف عنك تجربة إقامة خارج سوريا، أو ربما خارج دمشق وأحيائها. الآن يبدو بأن مصير اللجوء والمنفى أصبح واقعا في عالمك اليومي والمجازي، خاصّة بعد أن اضطررت للخروج كمئات الآلاف، لا بل الملايين من السوريين (هناك حديث عن تهجير أكثر من نصف السكان، هذا مرعب!). ماذا تعني تجربة اللجوء في التاريخ السوري المعاصر؟ وماذا تعني لك تجربة المنفى القسرية هذه؟
شهدت سورية ولبنان موجة نزوح في الحرب العالمية الأولى الى الأمريكتين ومصر، بحثا عن ظروف أفضل للعمل، وهرباً من الجوع والقحط، والتجنيد الاجباري. في الثمانينات صدّرت سورية موجة أخرى بفرار الاخوان المسلمين، كذلك التنظيمات اليسارية لوحق أفرادها، ونجح القلة منهم في الهرب.
في هذه الحرب، تشهد سورية موجة نزوح هائلة، يدفع إليها النظام بالقصف والتدمير والاعتقالات العشوائية، حتى أصبحت ملاحقة الشبان واقتيادهم من الشوارع وعند الحواجز إلى الجبهات من الأمور المالوفة. النزوح لا يقتصر على فئة، يضم معارضين وموالين، خائفين وبائسين ويائسين، أغلبهم فقراء نازحون فقدوا ما يملكونه، يغادرون هرباً من جحيم الحرب، أو لا مكان يؤويهم، لمجرد البقاء على قيد الحياة، وربما ماتوا غرقاً أو اختناقاً في شاحنات المهربين. هذه رواية كبرى تحفل بحياة على شفا الموت.
خرجتُ من سورية وأنا اعتقد أنني لن ابقى خارجها اكثر من أسبوع واحد، لكن امتدت اقامتي الى أشهر. حينها بدا أن الأزمة ستجد حلاً قريباً، ثم ها العمر ينطوي وأنا بعيد عن بلدي، كأنما لا نهاية لحرب فلتت من حسابات النظام والمقاتلين، ودخلت في مجاهيل مخططات الدول الإقليمية والكبرى. أما الشعب فمغيب، لكن وجوده حقيقة لا يمكن تجاوزها، في صموده وجوعه وابتهالاته وأمراضه وحصاره.
ثمة حقيقة أعيشها وأرفض غيرها، هي أنني ما زلت في داخل سورية، لم أغادرها، أسكنها أو تسكنني. لا أشعر بما حولي ولا أتآلف معه. أنا ما زلت في دمشق. أما الى متى سينجح هذا التحايل، لم ينفد صبري بعد، أواصري مع مكاني السوري مستمرة، أسايره ويسايرني. حالة اعتدتها، أتواصل مع أخبار ما يجري دونما انقطاع. وهي تجربة تعززها صور من ماض بعيد جداً، لم تصادفني حتى في احلامي، فإذا بها تحضر بتفاصيلها وملامحها، استعيد الماضي موصولاً مع الحاضر، وعيناي صوب مستقبل ما.
– هناك حديث يدور حول مفهوم “الرواية التوثيقية”. هل هذا “ضرورة” في أزمنة الإستبداد (خاصّة بعدما تيبّن عصيان النظام السوري على الإقتلاع). لو أردنا تخصيصا، هل الحقبة الفاصلة بين لحظتين تاريخيتين مثل “مجزرة حماه 1982″ و”مجزرة الكيماوي 2013” تتطلّب سعيا نحو ذلك السرد التوثيقي؟ وهل باتت هكذا محاولات “فضيلة سورية” لأسباب وجيهة أم “عَرضا عميقا” لأزمة هوية تمرّ بها الرواية السورية بلحظتها الراهنة للحفاظ على ما يعتقد بأنه بات عرضة للتلفيق والتزوير؟
لا أظن أن للرواية التوثيقية علاقة بأزمة الرواية السورية التي تمر منذ عقود بتجارب متعثرة، تنجح وتخطئ، وإنما على علاقة بأزمة حرية الرأي الذي لا يمكن استبعادها من نسيج العمل الروائي الذي هو على علاقة بالواقع، ما يضطر الكاتب إلى المحاولة الدائمة لايجاد فسحات من الحرية كانت على الرغم من الترميز، مستعصية بسبب الرقابة والمنع، واتحاد للكتاب عاجز عن أي شيء سوى مسايرة المنع، بتحظير مسبق، ما أنتج أدباً باهتاً.
في سورية لا يوجد ما يدعى “الرواية التوثيقية” عادة الرواية تستعين بالتوثيق، وتختلف عياراته من رواية لأخرى. تبعاً لنوع الصلة التي تربط الرواية بالحدث ومدى تأثيره في الواقع. عموماً لا تخلو منه رواية حتى الخيالية، ثمة مفاصل مؤثرة وثائقيا لا يمكن تجاهلها، ولا القفز عنها.
أعتقد أن هناك محاولات في العالم لكتابة رواية توثيقية، لم تأخذ مداها. قرأت قبل فترة “حكاية أوزوالد” للروائي الأمريكي نورمان ميلر، عن اغتيال الرئيس كنيدي، وهي رواية ضخمة تفوق الألف صفحة، استطاعت تغطية هذه الجريمة. حسناً، قبل أيام ظهرت حقائق جديدة!! بهذا انتفى شيء ما في الرواية، التوثيق فيها تعرض للعطب.
حالياً الرواية تتكئ على التوثيق، وتستفيد منه من دون التخلي عن طبيعتها، وتعتمد على تخييل يصعب التفريط به سواء في تكثيف الحدث أو تطوره، وابتكار الشخصيات. تخشى الرواية أن تفقد هويتها، لذلك يأخذ التوثيق حجماً محدوداً. اعتقد أن تيار السينما الوثائقية كان الأكثر نجاحاً بواسطة الصورة. وبرأيي الأفلام الوثائقية عن شخصيات تاريخية في الأدب وغيره، أكثر اقتراباً منها إلى الشخصية ذاتها في السينما الدرامية.
اليوم الاتجاه إلى “التوثيق” في سورية “فضيلة وطنية وإنسانية” مضادة للتعتيم الذي هو أحد شرور عصرنا، إن الكم الهائل من الأكاذيب التي تمطرنا يوميا تجعلنا نعتقد جازمين أن وسائل الاعلام مكرسة لإخفاء الحقائق. بات المشاهد على حذر منها، ولا يكتفي بها، ينبش عن مصادر إضافية، ليطمئن الى أن ما يطلع عليه ليس ما تلفقه أجهزة متخصصة بتضليله.
الحرب السورية كوقائع وأطراف وتحولات وماساة ونضال وصمود بحاجة إلى توثيق، والا ستندثر الحقائق تحت أكوام الأكاذيب. قد نرى رؤي العين طائرة للنظام ترمي يراميل متفجرة، ثم نسمع في الأخبار نفياً لها، ويظهر محللون يؤكدون عدم حدوثه، ويسخررئيس دولة من الخبر ويحيله الى طناجر ضغط، وتأتي وكالات عالمية لتشكك بروايات الأهالي، وتتحدث عن فيديوات مركبة لتنفي قتل الأطفال بالكيميائي، وما خلفته التفجيرات من ضحايا.
التوثيق مضاد لما تمارسه أجهزة اعلام النظام التي لا تكتفي بالتعتيم فقط، بل وتحوير الحقائق، وقلبها رأساً على عقب، وترويج روايات ضعيفة لا تعدو أكثر من سخافات، لكن العقل الموالي يصدقها. كذلك توثيق عمل المخابرات المرصود لاذلال الشعب، والمحاكمات الميدانية، ومعتقلات التعذيب، وسجون الموت، والاعدامات على الهوية الطائفية، والمجازر، والتجويع والتشريد، والشهداء، والنزوح… جرائم ما أكثرها. هذا ما يفضح النظام ويؤكد عدم صلاحيته إنسانياً للبقاء، ولتتعرف الأجيال القادمة إلى التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب للخلاص من الدكتاتورية، وأن الحرية ثمينة، وهناك من اعتبرها أثمن من روحه.
– فوّاز حدّاد، واضح أنّك تراعي في رواياتك دائما شوارع وأحياء وزوايا دمشق العاصمة. هذا التجوال المتكرر حول “ساروجا” و”شارع العابد” و”الصالحية” و”جوبر” و”أتستراد المزّة” و”سينما الكندي” و”الفردوس” و”مقهى البرازيل” و”هافانا” إلى آخره، يشبه شيئا من سلوك العجائز، كبار السن اللواتي يرعين “زريعات الدّار” كل صباح. هل في “جغرافيا الذاكرة” هذه لفحة حنوّ على المكان، البئر الأولى الذي يمكن أن يُفقد فعلا (بعض أحياء دمشق وحمص وحلب وغيرها من الأمكنة أصبحت فعلا أثرا بعد عين بفعل الحرب والدّمار)، أم تراها تفصيلة صغيرة لكنها واجبة من تقنيّات العمل الروائي بشكل عام؟
الانسان هو الماضي لا الحاضر، بمعنى آخر: الانسان ذاكرة. فالحاضر دائما في طور التشكل الى عدم اكتمال، عندما يكتمل يصبح ماضياً، أما المستقبل فلا هو مرئي ولا محسوس، مجرد تكهنات وافتراضات وتأملات، وإذا جاء يصبح حاضراً في طور الانتقال الى الماضي. ليست هذه فلسفة ولا فذلكة، بل دعوة إلى نعيش حياتنا، وإدراك ان الماضي ليس زمنا ميتاً، لكن لاعودة إليه، مثل المستقبل، لا ذهاب اليه إلا في الخيال. وهكذا الماضي الذي كان موجوداُ، والمستقبل الذي في طريقه إلى القدوم، كلاهما لا يحلان محل الحاضر، وإذا كان بمقدورنا التعلم من الماضي، فليس بوسعنا تغييره، وإنما قراءة صورته الحقيقية. فهو يسري في حاضر يستعد لملامسة المستقبل. إذا أخذنا الماضي بجدية، وصفينا حساباتنا معه، يمكننا العيش بامتلاء بلا أوهام عنه، ولن نضطر الى دفع ثمن تقصيرنا في المستقبل، مع كلفة أكبر.
في التيارات الفنية والأدبية التي رفعت لواء عبادة المستقبل كالمدرسة المستقبلية وما التحق بها من مدارس أخرى، المفترض أنها ستحافظ على ديمومتها زمناً لا بأس بهما ما دام أنها تتنبأ بالمستقبل وتسبقه. الذي حدث أنهم كلما اقتربوا منه، لم يكن هو. ماذا بقي من هذه التيارات؟ فن بارد، ميكانيكي، لا حياة فيه. الحياة الوحيدة هي هذه التي نعيشها، أما المستقبل ففي المستقبل، وإن كانت صناعته تبدأ من هذه اللحظة.
من جانب آخر، وهو اللصيق بالرواية، المكان تفصيل مهم في العمل الروائي، فالبشر في الرواية يتحركون فوق الأرض، يدخلون الى حارة، ويخرجون من زقاق، ويتمشون في الشوارع، ويرتادون المقاهي … تفاصيل لا توضع اعتباطاً، تمس شيئا في روح الكاتب ومسار الرواية، وتلامس دلالات كثيرة… الا اذا أراد الروائي ان يكتب عن مدن وشوارع متخيلة. أنا لست من أنصارهذا الاتجاه، لدي بلدي وأرغب في الكتابة عنه.
هناك جزء منا يصنعه المكان، لا ذكرى تخلو من حارة أو شارع، وربما نافورة أو بحرة، وطلعة أو نزلة، علامات في مشوار الحياة. إذا أضعنا المكان، فسوف يضيع شيء منا، ونسير في ظلام لا تنيره مسالك الطفولة والمراهقة والشباب والأصدقاء … ليست لعبة رومانسية، انها حياة. نحن في البداية والنهاية بشر.
وإذا كنت اكتب عن أمكنتي الدمشقي بما يزيد عن غيرها، فلأنها شكلت لوحة لا تتعدى دائرة قطرها كيلومترات قليلة، كانت رئة دمشق الثقافية والفنية، فيها تتجمع دور السينما والمسرح والمكتبات والمدارس والمراكز الثقافية، والبرلمان والمطاعم ومواقف الباصات وساحة المظاهرات، وشوارع مرّ فيها الترام… هذه البقعة لم تعرف أجهزة مخابرات، كانت شرطة المرور المظهر المتحضر للسلطة. استعادتها تؤنسني.
أما أن تكون دمشق، لم تعد كما كانت، فأنا لا انكر، سأضيفها الى دمشق التي في داخلي، وليتني أستطيع أن امنحها ما أتمنى ألا أنساه، ولا تنساه. ألا أخسره، ولا تخسره. لا أرى ضيراً في الشعور بالحنين الى الماضي والمكان، ولا أشعر بعقد المثقفين العتاة الذين يعتقدون أن في الحنين الى الحارات أو رعاية “زريعة الدار” نقيصة، انا اعتبرها إحساس بالبشر والروح والطبيعة والجمادات وما يتراكب حولها من أحاسيس نستمد منها سعادة ما، لا تخلو من شقاء.
– أنت من مواليد سنة 1947، حوالي سنة قبل إعلان دولة إسرائيل، وقبل سنتين على أوّل إنقلاب عسكري، وعشرين سنة قبل أوّل هزيمة معتبرة وإحتلال أراضي سورية… وأكثربقليل عن بداية حقبة “سوريا الأسد”، هذا زمن كثيف بتفاعلات وتقلّبات سياسية وإجتماعية، ماذا يعني ذلك ل”الطفل فوّاز”؟ ماهي الصور التي ترتدّ إليك حاسرة عن سنوات الطفولة واليفوع تلكم؟ أين تقف عوالم الطفولة والأطفال في عالمك الروائي المتشابك هذا؟
هناك محطات كثيرة يحضرني الآن منها، العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وما رافقه من مظاهر ردود الفعل في دمشق، مظاهرات شعبية عارمة، حركة تطوع في المقاومة الشعبية، شبان وشابات ورجال كبار في السن شاركوا بكثافة في التدريبات على الرمي بالبندقية. الإذاعة تلتهب بالأغاني الحماسية.
عام 1958 في الاجتماع الصباحي، تلا مدير المدرسة قرار اعلان الوحدة، في مناخ مشبع بالحماس. في ذلك الوقت، لا تخطئ الفرح على الوجوه، يخالطك احساس بأن الثورات ستندلع بالتتالي في البلاد العربية، أشبه بوعود انتقالات الربيع العربي. كانت الأجواء مهيئة بوجود قائد عربي يحرض على الثورة، والأوضاع مطمئنة، عبد الناصر قائد الأمة العربية.
اعتقد أن وعيّ بما يجري من أحداث لم يتبلور جزئياً الا في الرابعة عشرة من عمري، مع حدث الانفصال عام 1961، رأيت بضعة زعران، كانوا زعران فعلاً، ينتزعون اللافتة النحاسية عن مدرسة الاعداية الرابعة للبنات مواجهة منزلنا في حي البحصة البرانية، وكانت معنونة بـ “الجمهورية العربية المتحدة ـ الإقليم الشمالي” فأحسست فجأة بزوال ما تغنينا به في المدرسة على مدى ثلاث سنوات، وأن دولة الوحدة حقيقة قائمة، وجمال عبد الناصر بطلنا، واتخذت موقفا ضد الانفصال، كان منع التجول ساريا. بعد أيام عقب افتتاح المدارس أول العام الدراسي شاركت في مظاهرة مدرستي التجهيز الأولى.
عقب ثورة 8 آذار 1963 وانقضاض البعثيين على رفاقهم الضباط الناصريين، شاركت في المظاهرات. بعد حركة 18 تموز ومحاولة الناصريين استرداد السلطة، قبض علي وسجنت لمدة شهرين للقيام بنشاطات طلابية ناصرية. أذكر انني بلغت السادسة عشرة من عمري وأنا في سجن القلعة.
خرجت من السجن وكنت متأكدا بأنني لن اعود اليه، كانت التجربة كافية لشاب صغير السن، اتخذ قراراً وبشكل مبكر قبل سنوات منذ أدمن القراءة أنه سيصبح كاتب قصص. حصيلة التجربة كانت وافية تماماً، ففي المخابرات ضربوني، وفي التحقيق اجبروني على الاعتراف بانتسابي الى منظمة سرية تعمل على قلب نظام الحكم، وفي السجن التقيت بالكثير من طلاب الجامعة الناصريين وجربنا حياة بلا حرية، وهكذا اشبعت بتجربة كانت أكبر من عمري. ستمد برواياتي بمشاهد السجن.
لم أنشط سياسياً في حزب، لكن حافظت على مواقفي وكانت شخصية ضد الانفصال وضد البعث. مزاجيتي المبكرة، ربما ككاتب ناشئ كانت عصية على الانضمام لأي حزب، حتى عندما أصبحت يسارياً، لم انتظم في أي تنظيم. الثقافة أخذتني إلى الأفكار اليسارية التي لعبت دوراً في حياتي. كان ايماني بالحرية قضية كبرى، كنت كمن يؤمن بكتاب مقدس، ارفض أي اجراء يمارس ضدها، ورغم اعجابي بثورة أكتوبر الشيوعية، وقراءاتي الكثيرة حولها، ودفاعي عنها. كان القمع الذي مارسته قد نفرني منها. وفي الجامعة، أصبحت ضد احكام الإعدام بشكل مطلق. أنا مدين للكثير من قناعاتي الى قراءاتي. كانت الثقافة دليلي في حياة، لا توفر من التجارب سوى القاسية والمؤلمة منها.
عاصرت الانقلابات العسكرية في سورية والوطن العربي ابتداء من عام 1961 وإذا كنت قد انجرفت الى تأييدها، فلأنني ظننتها البوابة الى عالم جديد، لاسيما في حرق المراحل، لكنني أصبحت ضدها تماماً بعد انقلابات العسكر البعثيين المتتالية، كانت استيلاء على السلطة بغطاء من الذرائع القومية. ولم يخطر لي منذئذ التوظف في الدولة أو التعاطي معها تحت أي لافتة، حتى انني فيما بعد لم انتسب الى اتحاد الكتاب العرب، وعندما طلب مني ذلك اعتذرت. كنت افتقد إلى الحرية، فلم أشأ إضافة قيد على كتاباتي، وكنت قد بدأت النشر في بيروت بعد منع روايتي الثالثة. لم أحس بالحرية الا في الكتابة فلم ارد خسرانها. ادركت انني ينبغي ان أكون حراً في داخلي، ولو أنني سأمارسها وحدي. تحتاج الكتابة الى الشعور بامتلاك قدر هائل من الحرية الذاتية، من دونها لا رواية.
إذا كان الحدث المؤثر هزيمة 67، فمن مشاهداتي كانت استقالة عبد الناصر أشد رهبة، وكان لها دوي يفوق الهزيمة. فالعرب كانوا يعيشون حالة استرخاء، عبد الناصر أخذ على عاتقه حمولة القومية العربية، باستقالته لم يترك العرب في فراغ، بل في هاوية. هذا كان الشعور السائد. المظاهرات التي عمت أغلب البلاد العربية كانت حقيقية وصادقة. عبد الناصر كان الأمل في انقاذ العرب في ذلك الوقت من اليأس، مهما قال يساريو ذلك الزمن.
في هذه المنعطفات، رغم أنني كالمعتاد لم أمارس أي نشاط سياسي، ادركت أن السياسة لا تنقصل عن الكتابة، فلم تغب عما أكتب, وإذا كنت قد تأخرت في النشر، فلأنني فهمت الأدب على انه أداة رفيعة في الكشف عن الحياة والذات والمجتمع، عظمة الأدب كانت اغراء لي على تكريس حياتي له، وكان اشبه بمهمة رسولية، فالأدب لا يكذب، وكلما تقدمت في الكتابة ازدادت قناعتي بخياري، أصبحت محور حياتي، ولم أعد اهتم لشيء عداها. كان مقياسها الحقيقة مع ادراكي صعوبة الوصول اليها، ربما لعدم وجودها، ومع هذا ثابرت، الوسط الأدبي وكان عبارة عن شلل، لم يدم انخراطي فيه سوى بضعة أشهر، ابتعدت عنه، نمائم ثرثرات تحاسد أحقاد… كان مخيباً، حتى أنني اعتقدت ان الأدب غرر بي، وما هو إلا مهنة كغيرها من المهن. كان احباطي عظيما. لم ابق على قيد الكتابة، إلا لأنني صممت على أن أفعل شيئا جيداً، وكان في عدم المساومة في الرواية. ولقد كان من جراء اهمالي للوسط الثقافي، أنه تجاهلني. فكنت محظوظاً، وفرت على مسيرتي الكثير من الترهات.
– كتبت سنة 2012، المفصلية في تاريخ الثورة (أو تأريخها) مقالا شرحت فيه أوضاع العاصمة دمشق أمام إحتمالات عسكرية وإجتماعية وغيرها مع شرح جغرافي لمفاصل النظام وطبيعة توزّعه الأمني والعسكري في العاصمة. كيف ترى دمشق الآن؟ ماذا تعني دمشق “المدينة والنّاس” بالنسبة لك فعلا؟
سمحت سنوات خمس للجيش العقائدي بتكريس احتلال دمشق، مع أنه تم بشكل شبه كامل بعد بداية الثورة بأيام، مع الوقت لم يستثن حتى ما كان يشكل انفراجاً ضئيلاً للناس، فالحدائق والمقاهي والشوارع والأزقة والأسواق والكراجات والأبنية … تغلغل فيها العسكر والشبيحة وبسطوا هيمنتهم عليها. وقسمت العاصمة الى مناطق معزولة عن بعضها بفعل الحواجز، مؤسسات الدولة بما فيها الجامعة أصبح في داخلها مراكز أمنية. التشيبح أصبح ايقونة النظام، وماركة مسجلة للتمظهر، تبيح الاعتداء على الناس، ما فرض هيمنة غير مسبوقة على الدمشقيين، المتنفس الوحيد ما يدور على أطرافها من اشتباكات متقطعة. أما على جبهة داريا فنادرا ما توقف القصف والبراميل المتفجرة.
الاعتقاد بأن هناك نهاية أو حل لهذه الأزمة، وأن العاصمة لا تساهم بدورها والدمشقيون مقصرون، هو تبخيس لمعاناتهم. التركيز الأمني يبلغ اقصى درجاته في العاصمة. الأهالي مقيدون، فلا نطالبهم بمقاومة بائسة، أو عصيان انتحاري، فالبطش مسلط عليهم لمجرد التنفس، ومن دون أن يأتوا بحركة. الشبيحة يخطفون ويسرقون ولا يوفرون التحرش بهم وإهانتهم. ينفث الدمشقيون عن هذا الحصر والحصار بالغضب من اتفه الأمور، صبرهم نفد، وانتابهم اليأس، وأيضاً طالتهم اللامبالاة، عادوا يملأون الشوارع، حتى في عز تساقط قذائف الهاون فوق رؤوسهم، ليس بوسعهم الشراء، الشوارع كانت فسحة، تخفف عنهم سجن المنازل المبتلاة بانقطاع الكهرباء والماء والحر. اما من يتنعم في مطاعمها الراقية وفنادقها الفخمة، فالأثرياء المنتفعون من هذه الحرب، وعملاء النظام، وهم ليسوا قلة، يتمتعون بحماية الجيش والميليشيات المذهبية والشبيحة. بات البقاء على قيد الحياة مقاومة. ومع هذا يأملون بشيء ما، لن يتنبأوا، بعدما استنفدوا عشرات المرات الحلول جميعها.
كيف أرى مدينتي دمشق؟ مهما كانت درجة فقداني لها، فأنا افتقد اليها.
– في مقال للكاتب اللبناني حسام عيتاني بعنوان “أدب الخراب الأصيل”، نُشر في صحيفة الحياة اليومية (10/يونيو 2016) أتى فيه بشكل عام على محاولة بعض الأعمال الأدبية المعالجة السّياسية للواقع العربي التي تظهر فيها خطوط التصدّع الإجتماعية العميقة، تم ذكر “السوريون الأعداء” من بين تلك الأعمال. ينتهي المقال بنقد لاذع بين إمكانية إدراك وتشخيص هذه الأزمات الكبيرة مقابل الضعف الكبير في تقديم ما يصلح للعلاج، وهذا يحيل الى السؤال الكبير المؤرق: ماذا يمكن أن تقدّم الرواية خارج مدارات المتعة والأدب؟
ليست الرواية في وارد المعالجة السياسية، ولا مهمتها، وإذا طرحت حلولاً، فهي تأتي يالتداعي أو عرضاً وكنوع من التطفل، وإن فرضته الرواية. عموماً يصعب حصرها بمهام محددة، فهي مفتوحة على الانسان والعالم، مداها بلا حدود، وليست ملزمة به. وهي بكشفها عن ثغرات في السياسة أو الواقع والمجتمع، قد تدفع إلى التفكير فيها بشكل جاد، وقد تفرز افكاراً واقتراحات. ما تتميز به الرواية من ثراء لهو في توخي الغوص في الجانب الذي ربما اهملته الدراسات والبحوث، والأهم مجالها الحقيقي في تلك المشهديات الواسعة حيث تمتزج الأحداث بالشخصيات، والمكان بالزمان.
ليس من الضروري أن يحتل الكاتب في نصه مكاناً، كما ليس من اللازم اختفاؤه. لا قواعد مثل هذه تحكم الرواية، وتعطيها الأهمية أو تحجبها عنها. هذا كله لا يخطر في ذهن الروائي. ببساطة الروائي يكتب، ليس اعتباطاً، بل لأن ما في رأسه يفيض تحت ضغوط غالباً غير السارة.
أخشى أن الرواية تتخيل، بينما النقد يتوهم، لا يقدم أحدهما للآخر شيئاً. ما يدلنا كم هي مهمة النقد الحقيقي عظيمة ومطلوبة. الروائي مواجهة الحياة فقط، والرواية اختراق لها، والمغامرة بمحاولة التأثير فيها من خلال التأثير في القارئ، بدفعه إلى الصدام مع وجوه الحياة القاسية، المتغيرة والزئبقية، وقد تسهم بزعزعة نظرته المستقرة أو غير المستقرة الى ذاته، وربما بتغييرها، كذلك بالتعمق ببعض الإشكالات التي لا يتاح له سبرها. الرواية مجرد مساعد، قد تضيء لنا الظلام من خلال امثالنا من البشر الذين يتعرضون الى ما نتعرض اليه، وإن كان مجرد إحساس، وقد تجعلنا نغير مواقفنا أو نتشبث بها. انا بشكل ما مدين للرواية بفهم الكثير من الأشياء، سواء بقراءتها او كتابتها.
تضع الرواية البشر والأشياء في حالة حركة، والأدق في حالة صراع ، ولا يعدو هذا سوى مقطع من حياة قد نتماهى معها، وربما ادراكها والتأثر بها.
– لك عمل مترجم إلى الألمانية “جنود الله” الذي صدر سنة 2013 تحت عنوان لافت “سماء الله الدّامية” (Gottes blutiger Himmel) ولاقى حفاوة لابأس بها بين النقّاد هناك. هل تعتقد بأن الترجمة والأدب عموما سبيل أفضل إلى “فهم أكثر إنسانية وعمقا” من “السياسة”؟ بكلمات أخرى، هل يستطيع الأدب المترجم تهذيب ما ألحقته السياسة من موبقات، لاسيّما تلك العلاقة الشائكة بين التطرف الإسلاموي والإرهاب؟ أم هذا أقصد الترجمة شأن غربي بحت على علاقة بميل أزماتي عام إلى محاولة سبر أغوار هذه المجتمعات بمعزل عن قصص الحوار والتبادل الثقافي؟
لو يستطيع الأديب اصلاح السياسة لأصلحها شكسبير وسرفانتس والمتنبي وموليير وطه حسين…. يؤثر الأدب في الأفراد لا في الجماعات، الادب ليس حزباً، وإن كان سلطة، لكن بلا أظافر. امتيازه أنه جهد أناس ربما كانوا شخصيات حساسة وهشة، لكنهم ذو نفوس قوية، يشتغلون بالفكر والأدب والفن متفرقين ومنعزلين. فلا نعتقد بقدراتهم الخارقة، وإن كانت قواهم المتواضعة تنتج وتمنح أكثر مما هو متوقع.
العمل السياسي مفعوله أكبر، يشتغل فوق الأرض وتحتها، له كواليسه وخفاياه، ويستعين بالقوة وتعبئة الجماهير عن حق وعن باطل، ما يفعله قد يصبح بمثابة الأمر الواقع. السياسة مصالح وجشع يتجاوزان الأخلاق، ولا يعباءان بالانسانية، إن لم يكونا على عداء معها. اذا عولنا على الأدب فقط، فلا جدوى آنية ولا قريبة، لكن يجب وضعه في حساباتنا، قد يثمر. لكن أي ادب؟ ليس هذا الذي يُرضي الغرب ويستجيب لعقده التاريخية من الشرق، وإلى نزعات التفوق، وميوله الجنسية التي تجد تساليها في ما يدغدغ مشاعر الشماتة نحونا. الغرب يبحث عن المثير والممتع وأيضاً المفجع، نادرا ما يبحث عن الحقائق، حقائقنا لا تدعم حقائقهم، الشرق برأيهم متخلف مأزوم لا تصلحه الديمقراطية، لذلك كانت الدكتاتورية خيارهم المفضل لعلاج ناجع لشرق متعفن.
عندما تتكلم عن نظرة الغرب الينا، لا تنظر الى الدوائر الاكاديمية، ولا للمطلعين جيداً على احوالنا، هؤلاء لن نختلف معهم الا في بعض الأمور، يمكن التفاهم حولها. انظر الى ما تكتبه الجرائد والتحقيقات في المجلات، والتعليقات المشينة في الصحافة، وما يبث في القنوات الفضائية، هذا هو ما يخلق الرأي العام المُضَلّل، وهو في الحقيقة لا يريد الهداية. طبعاً هناك استثناءات كثيرة ومشرفة للحضارة الغربية التي نحن معجبون بها، وتعلمنا منها الكثير.
لدينا نحن أيضاً من يدين الإرهاب على أنه الإسلام، رائدهم السخرية من الأديان، وإلحاد سخيف ومنحط… الذين احتجوا على روايتي في سورية، أكثر من الألمان، برأيهم لكي أكون حسن النية، ألا أعطي “القاعدة” فسحة للرد، ولا مجالاً للتبرير. مع أن الإدانة في الرواية ضد “القاعدة” كانت جلية وقوية جداً.
يريد الغرب أن نفتح له أبواب الترجمة إلى لغتنا، ونتبنى أفكاره “القويمة”، بالمقابل يغلق أبوابه في وجوهنا، فلا يترجم الا حسب الطلب، وحسب الظروف، مرة عن الإسلام، وأخرى عن الأقليات، أو المرأة، والإرهاب…. طبعا ضمن مواصفات أسواقهم ومتطلباتها، حركة الكتاب في الغرب، تعتمد على الجنس، فهو الأكثر رواجاً. وبما أن الشرق يوحي بغرائزية مشبوهة، فلا يجب ان يكون الجنس الشرقي إلا فضاحاً للاسلام.
– هذا يحيلني إلى سؤال ربما على صلة بذلك. الثورة السورية (وجهالة الأرض والمجتمع السوريين بالنسبة إلى المجتمع الألماني مثلا) وتتابع الأحداث كانت مناسبة وجيهة في ظهور حركة ترجمة نشطة لبعض الأعمال لروائيات وروائيين سوريين (مثلا سمر يزبك، روزا ياسين حسن، نهاد سيريس، وفوّاز حداد إلى الألمانية). هل ترى عدالة ما في هذا التحوّل؟ وهل لديك تحفّظات على نوع الأعمال المترجمة والدوافع التي تعتقد أو يُعتقد بأنها تقف ورائها (هناك من يقول بأن الأدب النسوي والأقلوي على وجه الخصوص يملك أمارات إثارة أكبر، تماشيا مع ما تريد الذائقة الغربية سياسيا عموما)؟ هل يشغلك فعلا “حديث الترجمة”؟
ليس لدى دور النشر خطة تنحو إلى إقامة جسر مع المنطقة، مع أنه ليس هناك جهة تمنع أو تسمح. الترجمة تتم بفعل العلاقات الشخصية والمعارف والتقارب السياسي، وانتقاء موضوعات مختارة. وأيضاً هناك من يمول ترجمة كتبه. الترجمة عشوائية، ويصعب معرفة الدوافع وراء ما يترجم. بعضهم في الغرب عبر عن إحساس بالذنب، بأنهم لا يبذلون شيئا من جهتهم، مع توفر مترجمين وأموال، لكنها لا تعني شيئاُ، طالما لا خطط ولا أهداف واضحة.
في الواقع، ليست هناك رغبة حقيقية وصادقة في التعرف على المجتمع العربي ولا على الادب العربي. لولا النفط والحروب في المنطقة التي يخشى ان تمتد ذيولها إليهم، لما حصل بين آونة وأخرى بعض الاهتمام. من هذه اللامبالاة، تدرك انهم يطلبون من العرب أن يتفهموا الغرب، بينما لا يريدون أن يفهمونا. حسب قولهم، إنهم ليسوا بحاجة الينا، نحن بحاجة اليهم. الترجمة دونما لبس تقودها المصالح الراهنة، لا البعيدة المدى التي تبني جسورا حقيقية.
مؤخراً ترجمت بضع روايات سورية، وهو تحول طفيف وموفق، لكن لا عدالة فيه، وليد الراهن، ولاعطيك مثالاً المترجم غونتر اورت قرأ بالمصادفة رواية “المترجم الخائن” وطلب الموافقة من عدة دور نشر على نشرها، لم يتحمسوا، يريدون روايات صغيرة الحجم. لكنهم وافقوا على “جنود الله” لأنها تمس حدثا راهنا هو الإرهاب، وتوقعوا لها الانتشار. طائفة من الالمان كانوا ضدها، فالرواية قارنت الإرهاب الاصولي الاسلامي بالتطرف الاصولي الغربي المسيحي.
انا لا أكتب للغرب، والرواية بالاساس والدافع التي كتبت به لنا نحن السوريين والعرب عن محنتنا مع الإرهاب، وما قد تحدثه من تراجعات وخسائر. أي لم تكتب لحساب مزاجية الغرب، مع أنه كان لها أن تساعدهم على التعرف إلى اشكالاتنا.
عموما الروائيون السوريون يكتبون ضمن اتجاه إنساني عريض مهموم بالواقع السوري، لذلك نشعر باننا على الطريق الصحيح، وربما أسهمنا في جلاء سوء الفهم بين الشعوب، لكن ليس على حساب الحقيقة، ولا التعيش على الكوارث التي تحيق ببلدنا.
– تقول في إحدى مقالاتك المؤثّرة (موقع قنطرة الألماني 2013) بأن “التفكير بأسلوب روائي فيما يحدث في سوريا يتطلّب التفكير بها كبطل أوحد، يعيد الرواية إلى مسارها، وأن هذا لن يصح إلا عندما يفكر السوريون براويتهم، إذا أرادوا أن تضمّهم رواية واحدة، والبقاء فيها، وإعادة النظر بسردياتها، لا تزويرها والعبث فيها”. هل يمكن التوضيح أكثر، وهل كان هذا ولمّا يزل “نداء أخير” للسوريين، جميع السوريين اليوم وغدا؟
منذ بداية الأزمة، كان رأيي يصب في وحدة سورية، إن اردنا أن يلم شملنا بلد واحد. ما نجح خلال فترة الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال، ما زال صالحاً اليوم للعمل على ألا نخسر سورية. لم يفرقنا دين ولا مذهب، فرقنا الظلم والتمييز. إذا كانت الأقليات ستدعي المظلومية لمجرد انها أقلية، فشكواها لن تنتهي، هل نقضي على الأكثرية؟ لا يمكن الا بالقتل والتهجير كما يفعل النظام. لابد من أن نكون واقعيين من ناحية أنه لا أقليات ولا أكثرية، إنها لغة الظلم والفساد واللصوصية والجماعات المتناحرة. إذا نظرت جماعة إلى نفسها على أنها اقلية، فيجب أن تزرع في يقينها انها الكل، ففي الأديان والمذاهب، مسألة الأقلية والأكثرية، مسؤولية الله لا السياسة والأنظمة. ليست لعبة لغوية ولا نفسية، وإنما اعتقاد يضاهي الايمان. التمييز استغل لتكريس الفرقة. هذا التصنيف لا مفعول إيجابي له إلا في العمل السياسي، في دولة الأحزاب والقانون. عدا هذا وفي الجوهر، نحن بشر، وإذا كنا متدينين فعلاً، فلا نزاعات على السلطة سندها الإيمان، ولو اختلفت طرائق العبادة.
قامت المظاهرات من أجل الحرية والكرامة، القسم الأعظم من السوريين يعانون من الظلم. لو أننا مواطنون سواسية، لانضم المظلومون الى المظلومين، لكن منطق الأكثرية والأقليات الذي لعب عليه النظام، انجرف اليه مظلومون حقيقيون لأنه قيل لهم إن الأكثرية ستأتي وتقتلكم. كما أن النظام اشترى من دافعوا عنه بالمال والأكاذيب والتخويف.
إذا اردنا سورية واحدة وموحدة، فيجب علينا أن نؤمن بها، ونؤمن أننا سوريون، لا يمنعهم اختلاف اديانهم، او كونهم بلا أديان من كونهم سوريين. عندئذ تضمنا رواية واحدة، نكتبها مجتمعين. ليس هذا مخيال روائي. الرواية السورية أحبطتها الانقلابات، وحولت مساراتها، ولابد من تحررها مما أصابها من انحراف وتخلف. لا يمكن أن تعود سورية الى التاريخ، إلا برواية تحتل مكانتها في نسيج الرواية العالمية الكبرى للإنسانية، بلا قتل ولا عسف أو ارغام: رواية حرة.
عندئذ نستطيع النظر الى انفسنا وفي العمق دونما افتراءات أو تضليل، على صفحاتها نعترف وندين انفسنا بلا مخاوف. وإذا استمرت الحرب، فالسوريون ينتحرون بمجاراتهم هذا الإيقاع من تبادل الاتهامات والرصاص، سورية خسرت شبابها وأطفالها، بينما المجرمون قابعون في قصورهم، لا يكلفهم قتلنا سوى تسعير الأحقاد، وشراء القتلة، والاستعانة بدول تطمح الى استعادة امبراطورياتها البائدة فوق جثثنا.
– فواز حداد، أنت مقل في الظهور، لا تهتم بعوالم التواصل الإجتماعي الحديث، لا تشارك في معارك وشجارات وأزمات الفيسبوك كغيرك من المثقفين والكتاب السوريين عموما. هل هذا قرار ذاتي منك؟ هل هذه مساحة آمنة أم “انسحابا تكتيّا” بمفاهيم الثورة السورية؟ كيف تنظر إلى هذا الفضاء التواصلي الكبير؟ وكيف يمكن للمثقفين السوريين المساهمة أكثر في مجالات الشأن العام بعيدا عن الأدب وصالوناته؟
نعم، مقل في الظهور، وهذا عائد الى طبييعتي، أحاول قدر الإمكان عدم المشاركة في العمل الجماعي من ندوات وغيره، لا أجيد هذه الأنشطة، وطبعا لست ضدها. من ناحية عوالم الاتصال الاجتماعي، أنا حريص على متابعتها رغم جوانبها السلبية، لكن دون المشاركة فيها. استفدت منها كثيراً في الحصول على معلومات والاطلاع على ما يطرح من أمور بصرف النظر عن أهميتها، احياناً الإشكالات التافهة تفيد اكثر، تطلعنا على الخلل في طرائق التفكير، والتطرف في وجهات النظر، والميوعة في الرأي. تابعت بعض المناقشات، فلم تف بما اعتقدته، تغيب عنها الجدية وتمتاز بالهذر، وبالكثير من الخفة، وأحياناً بالسفاهة.
اعتقد ان لدى كل كاتب أفكاره وطريقة عيشه …. يختار الأسلوب الأكثر انسجاما معه، ربما كان الأكثر عطاء، ولو كان الأشد عناء. أنا على الرغم من ابتعادي عن أوساط السياسة والأدب في حالة تواصل ثقافي مستمر مع الجميع من خلال كتاباتهم، فأنا في شبه عزلتي منفتح على ما يجري على الأرض، وما يطرح من تساؤلات، مع المتابعة المستمرة لحركة الفكر والرواية والسينما والفن التشكيلي. … طبعا الكتابة تأخذ جل انشغالاتي.
المشكلة الكبرى التي اعاني منها ضيق الوقت، ما اريد فعله وقراءته كثير جدا، ثم هناك حصة لا مفر منها للملل والضجر، وأحيانا القرف، لا يمكن السيطرة على النفس. الأمر الجيد أنني عندما أيأس لا يأخذ يأسي مداه، لا أجد متسعاً له، لابد من التفاؤل، وألا يعيقني هذا الإحباط الذي يواجهني يومياً من العالم .
عموماً، في هذا الخراب لا مساحة آمنة. اخوض في رواياتي ما يجب برأيي التصدي له فعلاً، وأمارس طرائق عيش تمنحني حياة قلقة وليست سهلة، وهذا مايستهلكني تماماً. آخذ العمل الروائي على أنه مسؤولية ولعب ومعركة ومخاطرة وإعادة تكوين، وإضافة مستمرة، وارتياد للمجهول … هذا ما اعتقده لتشد دوافعي من عزيمتي.
– من نبش التاريخ السياسي السوري “موزاييك دمشق 39″ و”تياترو 1949” مرورا بقلب الظلمات العراقية “جنود الله” و”خطوط النّار” وصولا إلى “ملحمة” السوريون الأعداء. وكأن هناك خطّا متعرّج الدروب نحو وجهة واحدة في الكشف والنبش ومواجهة المحرّمات. هل لدى فواز حداد مشروع لمّا يكتمل بعد؟ هل نحن أمام تشييع تلك المفارقة بين “السماء المدلهمّة” و”المكفهرّة” في الأدب، نحو منحىً روائي سوري يذهب إلى تسمية الأشياء بأسمائها المرعبة بدلا من المراوغة والترميز؟
مشروعي لن يكتمل، ما دام على علاقة بسيرتنا في المكان والزمان، وحياة لا تنقطع صلتها المتشعبة بالتاريخ والعرب والإسلام والإنسانية والضمير والحروب والرعب والذات… كل مرحلة تأخذني الى مرحلة تالية مع مراعاة ما يطرحه الراهن من قضايا، وما يختلج في النفس، ويثار من إشكالات. اكتب كي اعرف، اكتب كي اكتشف، اكتب لاعبر عما في ذهني… ربما اقمت صلة مع القارئ، أو ساعدت على الوصل بين ما مضى وما هو آت. من جانب آخر، لا يعرف الروائي تماماً ما يريد قوله، وإنما يتعرف إليه خلال الكتابة. أحياناً كثيرة تأخذني الرواية في مسارب جانبية، لا تشذ عن خطتها إلا لتقول أكثر من شيء.
أنا متفاءل مما يكتب اليوم، الرواية السورية تحقق تقدما في الطريق الصحيح؛ لا مواربة أو مراوغة، لا غمغمة ولا مناطق مخاتلة ومخايلة. أدب يواجه الحقيقة مهما كانت مؤذية، وإذا كنت تعرضت إلى الطائفية، فعلى الأرض هناك من يفرز السوريين إلى سني وعلوي، وحسب المصادفة اما أن يعدم هؤلاء أو هؤلاء. لذلك من الحماقة والسخف ألا نسمي الأشياء بأسمائها، إلى متى نتوارى وراء وطنيات زائفة وكاذبة، ويتهم من يشير الى هذا الاجرام. في روايتي “السوريون الأعداء”، اتهمت بأنني روائي طائفي انعزالوي (انظر الى هذا المصطلح المبتكر، لا تنقصه الفخفخة ولا التقعر!!). اذا لم يؤخذ هذا الشرخ الاجتماعي والوطني المميت في سورية بمبدئية وعقلانية، وجرأة وجدية، فما يكتب هراء، ودخول في دورة أخرى من العبث اللامجدي الا في تأبيد اشكالاتنا.
نعم، نريد بلداً علمانياً ديمقراطياً، لا تستغل فيه الطوائف، يحكمه قانون لا يستثني اللصوص والمجرمين، يضع حداً لقتل الناس بأكذوبة المؤامرة الكونية، وذرائع فبركت لاستمرار الدكتاتورية ووطن سجين.
– شرارة الثورة السورية لم تكن مناسبة لإنطلاق الحراك السياسي الأكبر والأكثر تحوّلا في التاريخ السوري المعاصر فحسب، بل لحظة فارقة في إنعتاق المكبوت السوري الذي تم التعبير عنه بصريا وشعريا وأدبيا وكفاحيا ايضا. هل تتابع ما يصدر في الحيز الثقافي السوري بعد الثورة؟ هل ترى تحوّلات ابداعية كبيرة في المضامين والأشكال أم هي فرصة ليس أكثر لإسماع الصوت السوري في عالم لم يعد يهتم بآلام السوريين وتضحياتهم؟
الثورة عطلت الممنوعات، ما عكس تحررا في المضمون، لكن الثورة لا تجب فوراً ما سبقها من مخاوف ومحاذير. يلاحظ تخفف من الرقابة، وتدفق هائل من الشهادات ضد كل ما كان الادب يخشاه، بالضرورة هي النقيض له. لكن ليس من الحكمة التسرع في الحكم على سوية الكتابة والفن. حالياً الأدب مهموم بالحقيقة، بهذا المقدار يُحكم على قيمته، بالنسبة للمستقبل سوف يكون الحكم اكثر صوابية في النظر الى الابداع من حيث ما يمنحنا إياه من عمق يبلغ ذروته وديمومته بما يحفظ مكانة الحقيقة والفن معاً.
بلا ريب، وضعت الثورة حداً فاصلاً، بين ما قبل وما بعد، وسوف يحكم على ما كتب قبلها أو بعدها بمنظار لا يغيب عنه الاحساس بأن أدبنا ينبغي أن يصبح جزءاً من الأدب الإنساني.
– بماذا تفسر برودة (كنت على وشك استخام كلمة بلادة) الرأي العام العربي تجاه معاناة السوريين من خمس سنوات الى اليوم؟ أين موقف المثقفين العرب مما يحدث في سوريا؟ ربما باستثناء بعض الأصوات من المثقفين في لبنان المهتمين بأحوال الثورة السورية والحدث السوري نكاد نجهل صوتا لاذعا لمثقف عربي لا يتحرّج من التضامن علنا مع ثورة السوريين بكل ما اصابها من أمراض وآلام. هل “سوريا” في الأمس واليوم أهم في نظر النخب العربية من “السوريين”؟
لكي نعرف صلة المثقفين العرب بسورية، فهي من خلال مثقفي اتحاد الكتاب الذين يحضرون على مدار العام المؤتمرات والتظاهرات الثقافية. كان من نشاطاتهم، التعريف بنظامهم الدكتاتوري القومي الممانع، فتصور أية صورة بهيجة ينشرونها عن عالم سورية الهانئ البال والقومي السعيد. هل تحسب ان مثقفا مصريا او مغربيا لم يتصل بصديق له في سورية ويساله عن هذا الذي يحصل. ماذا كان جواب المثقف السوري؟ بوسعك معرفته من هؤلاء الرواد الدائمين للمهرجانات الثقافية.
يقف المثقفون العرب من القضايا الوطنية مواقف أيديولوجية، لا عجب ادمغتهم مغسولة، يعتبرون موقفهم إزاء سورية دفاعا عن الاتجاه القومي، باعتباره البلد الوحيد الذي يرفع شعار المقاومة والممانعة، وكأن القومية تسوغ القتل، والوطنية تبرر السجون. من دون التساؤل عن حقيقة قمع النظام للشعب. ما يدل أن الثقافة العربية الراهنة، إذا كانت على هذه الشاكلة، فهي ثقافة استبدادية، تنبذ العقل ولا تُعنى بمسائل الضمير، ولا المسؤولية الأخلاقية.
وإذا كان بعض المثقفين اللبنانيين وقفوا بقوة معنا في محنتنا، وكانت أصواتهم الأعلى بين المثقفين العرب، فلأنهم ذاقوا جحيم النظام السوري، عانوا منه سنوات طويلة، وهذا لم يمنع مثقفين لبنانيين أيضاً أن يكونوا ابواقا للنظام السوري، ويشاركوا في تضليل الرأي العام داخل لبنان وسورية.
– فواز حداد، أنهي حديثنا بسؤال يؤرقني شخصيا: ماذا يحتاج السوريون اليوم؟
طوال اكثر من أربعين عاما، كان السوريون محجوبين عن العالم، فجأة ظهروا من باطن الأرض وطيات الظلام، وتعرضوا للشمس. يحملون أفكاراً مسبقة عن طيبة المجتمع الدولي، جراء اعتقادات ساذجة، فعولوا عليه، لكنهم فوجئوا بتخليه عنهم بشكل غير مفهوم. لم يدركوا أن العالم لم يأخذهم على عاتقه إلا في حالة واحدة، وهي في تسخيرهم لمصالحه. نعم، الغرب ليس جمعية خيرية، لكن يجب ألا يكون جمعية شريرة.
الغرب لديه أفكار ثابتة حول العالم العربي، ودائما يفضلون التعامل معه من خلال “الديكتاتور”، رغم الادعاءات الديمقراطية. لديه القدرة على قول الشيء ونقيضه. السوريون كانوا يصدقون ما يسمعونه، وينفون نقيضه. لم يتخذ الغرب موقفا مبدئياً، ولا اخلاقياً، يمكن وصف سياساته بالمنحازة، فهم الأكثر معرفة بعظم الجرائم المقترفة يومياً ضد الشعب السوري. ولا يريدون دفع تكاليف التدخل، فتجلت مهاراتهم الدبلوماسية في التأجيل والتسويف.
خلاصة الكلام، الحل الأقرب الى الصحة، ألا نأمل شيئاً من الخارج، انقاذ بلدنا يقع على عاتقنا. لذلك يحتاج السوريون فعلاً الى أن يكونوا سوريين، هذا الوطن آخذ بالانسحاب منهم، إنه يتمزق، وهم يتمزقون أكثر منه. ليس من الصعب معرفة الحقيقة، وإنما الصعب هو العمل بما تمليه علينا، وهو كثير، لكنه قليل إذا توحدنا، ورمينا وساوسنا خلف ظهرنا. هذا الأمر على بساطته بحاجة الى معجزة. هذه الأوضاع المتفاقمة ذاهبة الى التقسيم، الخطر في استمرارها، إحلال سورية غير مفيدة تزعم أنها علمانية وديمقراطية، بينما لن تكون الا دولة طوائف ولصوص وشبيحة، إلى جوارها سوريات الأكثرية المتناحرة ترفع اسم الله عالياً وتقتل وتسحل تحت رايته. لن تكون سورية إلا أوطانا صغيرة تمزقها الحدود والضغائن والطوائف والمذهبيات والأديان والتطرف.
يحتاج السوريون إلى الايمان بالوطن السوري، لا يجمعنا غيره ولا بديل عنه، وإذا كان له ان يتحقق ويزدهر، فلا نظام شمولي، مهما كانت صفته متعلمنة أو متأسلمة.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.