نورس مجيد
11 تموز 2012
“إن كون الإنسانِ عاشَ مع العنف ردحاً طويلاً من الدهر، لا يجوز أن نستنتج منه أن العنف من لوازم الوجود الإنسانيّ، بل يجب النظرُ إليه كما هو في حقيقته باعتباره عائقاً أمام التّـقدمِ الإنسانيّ، تماماً مثلما ننظر للأميّة اليوم باعتبارها عائقاً أمام التقدمِ الإنسانيّ” د. محمد العمار
شهد المشهد الثقافي والسياسي في العصر الحديث ثورات شعبية كبرى أحدثت تغيرات ملموسة على المشهد العالمي، وواكبَ هذه الثورات مدٌّ ثقافي واسع يرى كثيراً من الجدوى في المقاومة المسلحة تحديداً وفي قدرتها على تحقيق أهدافها بل يرى فيها نماذج كبرى للتغيير الاجتماعي. وتبنى كبار المثقفين مثل سارتر هذا النموذج متغنين بالملاحم الثورية التي كانت إحدى السمات المميزة للعصر بدءاً من الثورة البلشفية في 1847، والثورة الصينية وانتصار ماوتسي تونغ على جيش القوميين النظامي في 1949، وفيديل كاسترو في كوبا عام 1959، وصمود الفيتكونغ في فييتنام في وجه أمريكا وإحراجها، والجيش الجمهوري الأيرلندي، وجبهة التحرير الفلسطينية، ونمور التاميل في سريلانكا، وحركة إيتا الانفصالية في إقليم الباسك بإسبانيا، وهجمات حزب الله على الأمريكان في الثمانينيات وغيرها الكثير من حركات المقاومة. الشعوب لامست جدوى العنف السياسي وبمجرد أن اعتبر مجدياً بات بالإمكان التغاضي عن تكاليفه البشرية العالية.
بيد أن رومانسية الانتصارات الملحمية أخفت بشكل متقنٍ دمويةَ النتائج القصيرة والمتوسطة لهذه الحروب، وبقي الشارع الثقافي العالمي مخموراً برؤية دكتاتوريات تطرد وحكومات تتغير وجيوش تهزم وحدود يعاد رسمها: على السطح كان من السهل رؤية الملامح الدرامية لهذا التغيير، إلا أن تحري ما يخفيه في أعماقه كان بمثابة السهل الممتنع، فلم يتنبه العقل الجمعي كيف جرى استبدال دكتاتور بآخر، وكيف تواصلت بل تعاظمت الانتهاكات لحقوق الإنسان، وكيف تزايد سقوط الضحايا بأعداد أكبر، فضلاً عن الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والديمقراطي في الدول التي تبنته.
شكل كل مثال تقريباً من هذه الأمثلة مأساة إنسانية مازال الكثيرون يتغاضون عن ربطها بوسائل التغيير التي قادت إليها في البداية. أسهمت حملات ماوتسي تونغ، ذاك الذي يدافع أنصاره عن جدوى العنف السياسي، بشكل مباشر وغير مباشر في مقتل قرابة ستين مليون إنسان في الصين. أدبيات الثورة البلشفية بدورها أخفت انتهاكات صارخة تغاضى عنها الكثيرون، ويذكر أن شتينبرغ، مفوض العدلية في حكومة لينين البلشفية، اعترض على أوامر النظام بتصفية (جميع أعداء الثورة والمخربين وقتلهم مباشرة عند العثور عليهم)، وسخر من القانون أمام لينين نفسه قائلاً: “لماذا نحتاج إلى المفوضية العدلية إذن، لماذا لا ندعوها ببساطة مفوضية التطهير الاجتماعي وننتهي من الأمر؟!!”، عندها أجابه لينين: “أحسنت القول، هي كذلك إذن لكننا لا نستطيع أن نعلنها هكذا”. الفيتناميون الذين يتفاخرون بنصرهم على نصف مليون جندي أمريكي مدجج بالسلاح، يعانون إلى اليوم من تبعات الحرب الدامية التي سقط ضحيتها أكثر من مليون ومئة ألف شخص ولم تحقق إلا انقساماً ودماراً وتفككاً مازالت آثاره تحصد الأرواح إلى اليوم بعد ستين عاماً على اندلاعها، وكوبا التي يتغني الكثيرون بملاحم انتصاراتها الثورية عايشت وما تزال واحدة من أطول حالات الاستبداد في الحكم في القرن العشرين، سريلانكا من أكثر الدول في العالم التي عانت وما تزال من الحرب الأهلية التي كانت أهدافها عادلة تماماً لكنها ارتكست إلى صراع طويل ضاعت تحت رحاه حقوق الضحايا والقتلى بعشرات الآلاف. حركة إيتا في إسبانيا كانت تسعى لتحقيق عدالة افتقدها إقليم الباسك لقرون طويلة مع تعاقب (المحتلين) والمستبدين، لكن أهدافها العادلة لم تشفع لوسائلها المخلّة التي دفعت نصف مليون إنسان من سكان الإقليم في 1997 إلى الخروج للشارع وهم يصرخون “كفى، كفى” لإيقاف عنف الانفصاليين، فيما يمكن وصفه بالثورة السلمية على الثورة المسلحة.
وفي ظل الإيمان الواسع بهذه “الجدوى” بدى من العصي التنبه لحركات المقاومة السلمية التي قادت إلى استقلال الهند وحقوق متساوية للأمريكيين السود، وللسود في جنوب أفريقيا، وأسهمت في بناء ديمقراطية في بولندة والتخلص من الدكتاتورية في الأرجنتين والتشيلي والفلبين ودول أوروبا الشرقية وغيرها من الدول، فيما بدت نتائج هذا التغيير إيجابية جداً على مستوى العيش والديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة والتعبير والتنمية البشرية في هذه الدول.
بدورها، فقد تغيرت طبيعة الحرب الحديثة اليوم، فلم تعد تعتمد على الشجاعة بقدر ما تعتمد على العتاد الذي تملكه قوى بعينها تتبرع به حيناً أو تغله أو تبسطه أو توقفه نهائياً فتضغط به أو تفاوض أو تقاتل أعداءها (الذين هم ليسوا بالضرورة أعداء المقاوم نفسه). ومع بقاء حق النقض المخزي في مجلس الأمن، الذي يدوس ببسطاره العسكري على مبادئ الديمقراطية ويعطي الحق لأحد أعضائه، ضد رغبة الأغلبية، بمنع التدخل لحماية المدنيين في كل مكان وليس في سوريا فقط، ومع الامتلاك الحصري للعتاد المتطور في حوزة نخبة من الدول، فإن الحرب من أجل الحرية ليست اليوم أكثر من معارك بالوكالة لتحقيق “مكاسب” سياسية ليس لأصحاب الحقوق بل لأصحاب المدد. الجندي البائس الذي يناضل اليوم في الدول النامية بات بيدقاً تحركه إرادة لا يستطيع دائماً، بل غالباً، إدراك أهدافها الحقيقية، تبتزه لينفذ أوامرها، بعد أن ابتزته ليقع في شراكها، وتمده فقط بما يكفي من العتاد لإبقاء الصراع مستعراً لكن متوازناً، فلا يجب أن ينتصر طرف على آخر إلا باتفاق الممولين بين بعضهم، والمشهد بات متكرراً لدرجة الغثيان لتلك القرابين البشرية التي مازلنا ندفعها في أتون حرب لا تملك في ذاتها القدرة على تحقيق أي نصر.
لكن تحولاً شهده القرن الماضي مازال يمنح بصيصاً من الأمل للمستضعفين والمؤمنين بحق الإنسان في الحياة والحرية، ويتمثل في اكتشاف القوة التي تملكها الشعوب بعد أن كانت حصرية في يد بعض القادة (أو الأفراد): قوة تنتشر بشكل أفقي سريع عاماً تلو الآخر، وتحتل آثارُها العقل الجمعي العقد تلو الآخر، وتفرض رؤية جديدة للتاريخ والواقع تأخذ في اعتبارها ارتباط وسائل النضال بالأهداف والنتائج التي تترتب عليها، فيما تنحسر عدوى السلاح على خريطة العالم بشكل متدرج لكل من يتابعها، وتنحسر معها كل تجليات العنف بدءاً من الحروب العالمية الكبرى ووصولاً إلى الحروب الصغيرة والجرائم والتعذيب والاغتيالات والعنصرية والتمييز والعنف ضد المرأة والطفل. الحروب القديمة بين الدول العظمى أصبحت جزءاً من الماضي وربما لن نرى آثارها بعد اليوم إلا في المتاحف ولن نقرأ أخبارها إلا في كتب التاريخ، أما هذه المعارك الصغيرة الطويلة المتواصلة التي تجتاح هذا الجزء من العالم بين العقد والآخر، فستكون نهايتها قرينة الاكتشاف الذاتي لسنن التغيير والتطور البشري قبل أي شيء آخر، وستحسم بانحسار الوهم بجدوى السلاح بين خداع القوي وجهل الضعيف: هذا المخاض فيه ما في أي مخاض آخر من الألم والعذاب، وسواء فشل أو انتصر فهو ماضٍ في وضع رواية التاريخ الحقيقية بعيداً عن كذب المنتصر ومغالاة الضحايا.
إن الطريق لتحقيق غاية السلام في هذا العالم مازال طويلاً جداً، والطريق للحفاظ على ما تبقى منه في سورية بات أقرب للحلم، وربما أصبح الحديث عن وقف القتل والعقاب الجماعي السافر والاستبداد والقصف والاغتيالات، ومعه على الطرف المقابل الحديث عن الالتزام بالمدنية والسلم ورفض الانتقام، ربما يكون خطاباً أقرب للتمني منه للواقع في شارع يرفض طرفاه أي إشارة للتعقل والتفكير أو التنازل أو التفاوض ناهيك عن التوقف من طرف واحد. أما الإنسانية المكلومة في كل مكان، شئنا أم أبينا، فإن تطورها يقود باتجاه سلام بات يمكن قياسه ودراسته، لكن على الرغم من الانتصارات الكثيرة التي حققتها، إلا أنها قد لا تملك ما يكفي من الوقت لتحقيق هذه الغاية إن واصلت إيمانها بحتمية العنف ليس لجدواه أو عدالته وأثره بل لسيطرة فكرة خاطئة على عقولنا تماماً كما سيطر وهم دوران الشمس حول الأرض على فكرنا لقرون طويلة. فهل نعتبر بغيرنا أم كتب علينا أن نكون نحن العبرة لمن سيأتي بعدنا؟!.
يجب عليك تسجيل الدخول لاضافة تعليق.